انغلاق بعض الكتاب على كتب التراث وإغلاق الباب دون الاطلاع على الكتب المعاصرة، بقدر ما يخدم قلمهم ويرتقي به أسلوبا ومعنى، إلا أنه قد يجهز عليه ويقتله، لأنه والحال كذلك سيصبح قلما رجعيا متخلفا، فالكتابة كائن متجدد تغير جلدها كالزواحف وتجدد خلاياها كالكبد، والجلد أعني به الشكل والكبد أعني به الموضوع، قارئ اليوم ليس كقارئ الأمس، ومن لبس للصيف ثوب الشتاء اختنق.

هذا لا يعني إهمال هذه الكتب وإراقة دمها لأنها ولدت لزمان غير زماننا، أبدا، فهي الجذور التي نستنبت منها الزرع، والأساس الذي نبني فوقه القصر، وإلا قل لي بالله عليك؟ من لا يقرا للمازني كيف يكتب أدبا مشبعا باللطف والظرف، ومن لا يتمثل أبا حيان التوحيدي أيان يكتسب قلمه حكمة الفيلسوف،

ومن لا يميل ناحية الجاحظ كيف تستوي له عبارة راسخة تدب على قدمين، ومن لا يستلهم ابن حزم كيف يرتب أفكاره ويوجز آراءه ويسبك نصه؟!

وهذا ما أشار إليه الصيني لو-جي، بلغة شاعرية فقال: «أتجول بين الأعمال الكلاسيكية، تلك الغابة من الكنوز، وأعشق موازنتهم الأنيقة بين الأسلوب والمضمون، ملهما، أضع جانبا الكتاب الذي كنت أقرأ، وأدع الكلمات تنسكب من ريشتي».

أعرف من الكتاب من لا يقرأ لزملائه، وإن قرأ فعلى استحياء، وقلما يشير إلى ذلك، وإن أشار فمن طرف خفي! بينما كالحصان يعدو مباهيا ومفاخرا في ميدان كتب التراث قراءة وتحدثا واستشهادا! الكتب المعاصرة أراها الأنثى الجميلة الرشيقة الجذابة، والكتب التراثية أضعها موضع الرجل الشهم الأصيل،

من افتقد الأولى باء بكتابة خشبية جامدة، ومن افتقد الثانية ابتلانا بكتابة مهلهلة ضحلة، أما من جمع بينهما في مداده فقد حاز الحسنيين وحجز لقلمه مقعدا في مجمع الخالدين،

وأجزم أن التراث بكتبه وكتابه سيكون أسعد حالا ليس بالذهاب إليه والسكنى معه والعيش في جلبابه، ولكن بدعوته للمثول بيننا والاندماج في نسيج منجزنا الكتابي المعاصر.

من د. صالح الرقب

أستاذ العقيدة، بالجامعة الإسلامية، فلسطين