(تضخم نفوذ القناصل الأجانب)

وقد استثمر اليهود هذا الوضع المريح فأقدموا على محاولة الاستيلاء على حائط البراق من المسجد الأقصى، وأعانهم على هذا القناصل، وقدا احتفظت لنا السجلات بوثيقة تتمضن شكوى شيخ المغاربة في بيت المقدس إلى إسماعيل عاصم حكمدار حلب من أن اليهود ما زالوا يتعاظم أمرهم ويزيدون في الإيذاء عند حائط البراق، فمن بعد ما كانوا يزورون الحائط زيارة عادية هادئة صارت تتعالى أصواتهم، وتتكاثر أعدادهم، ويزيدون طقوسهم حتى كأنه صار كنيسًا لهم، ثم أرادوا أن يُبَلِّطوا الأرض التي أمام الحائط، وهو أمر جديد لم يسبق لهم أن تجرأوا عليه، ثم إنه سيؤدي إلى إغلاق طريق مؤدٍ إلى وقف إسلامي آخر بتلك المنطقة،وقد دُعِمت شكوى شيخ المغاربة بقرار من «مجلس شورى القدس » ومن ثَمَّ قرار إسماعيل عاصم منع اليهود من إحداث شيء جديد، لكن ما لبث أن جاء أمر من القنصل الانجليزي إلى متسلم القدس بأن يسمح لليهود بما أرادوا، فأصدر متسلم القدس أمرًا بالسماح، ثم اعترض مجلس شورى القدس، فرُفِع الأمر لإبراهيم باشا الذي لم يبال به وفوض إسماعيل عاصم في القرار، وهو ما مآله عمليًّا إمضاء رغبة اليهود المدعومة بقوة القنصل الإنجليزي.

وكان القناصل يستخدمون نفوذهم في الدفاع عن غير المسلمين من أهالي الشام، ومن غريب ما وقع في مثل هذا الأمر أن المسلمين كانوا يتخذون زي اليهود ليتخلصوا من التجنيد الذي لم يكن يشمل اليهود والنصارى، فانتبه إلى هذا المكلف بجمع، أو بالأحرى: خطف، الشباب للتجنيد فأخذ يجمع الكل،فأخذ ضمن من أخذهم جملة من اليهود والنصارى، ورغم أن الخطأ لم يستغرق سوى ساعات إذ بدأ شباب اليهود والنصارى يعودون في عصر اليوم نفسه إلا أن السلطة عاقبت اليوزباشي الذي لم يتحقق في جمعه أُخِذ منه سيفه ونيشانه وصُرِب بالسياط أمام القنصل الفرنسي بودين وأُنْزل وتبتين.

وذات يوم وقعت جريمة قتل الأحد رهبان النصارى (حادثة الباديري)، فجندت لها سلطة الشام كل طاقتها للبحث عن الفاعلين، واتخذت التعذيب سبيلًا حتى على يهودي مشتبه فيه، ومع هذا فقد حضر إليهم يهودي إفرنجي تدل الدلائل على معرفته بالمجرمين وحاول التشفع في اليهودي المُعذَّب،ثم خرج ولم يُعتقل أو يُحقق معه ولم يُتَتَبَّع، رغم أن خروجه كان الإنقاذ القتله الذين لم يعترف عليهم بعد اليهودي المقبوض عليه! ثم وبعدما ثبتت التهمة عليهم بالاعتراف والإقرار جاء قرار سيادي من محمد علي بالعفو عنهم لما تحرك إليه اليهود الأوروبيون!

ولقوه نفوذ القناصل كان إبراهيم باشا رغم قسوته العنيفة على من يتمردون عليه لا يستعمل نفس تلك القسوة مع غير المسلمين، فمن ذلك أنه حين خرَّب الكرك أمهل النصارى ثلاث ساعات يخرجون فيها من البلد وينقلون منها ما استطاعوا من أرزاقنهم،ثم اجتاح البد ونفذ فيها مذبحته فكان عساكره يقتلون من لقوه وينهون ما وجدوه ثم. جعل البلد ركامًا.

وتسجل وثيقة عسكرية جملة غربية ترد في أمر موجه إلى خفتان باشا في جهة دمشق يقول: «نظرًا لقيام النصارى في جبل الدروز اجمعوا الهناديين وامكثوا بأثقالكم حيث أنتم وليس لكم أن اتعتدوا عليهم في هذه الآونة الأني أريد أن أخمد فتنتهم دون أن أمسهم »! ثم وثيقة أخرى بأمر عسكري آخر إلى سليمان باشا« بإبداء النصح والعظة إلى الثوار»،ويتكرر هذا الطلب بالنصح والعظة!

ومما يُرثي له أن المسلمين اضطروا أن يمتهنوا أنفسهم للقناصل للنجاة من بطش سلطة إبراهيم، وذلك أن قوانين التجنيد الإجباري التي كانت في ذلك الوقت استعبادًا لا رحمة فيه ولا أمل في النجاة منه كانت تشمل المسلمين ويُعفى منها المسيحيون واليهود. فكان المسلمون « ذوو المقام النبيل يعملون قواسين وخدمًا وسواسًا عند القناصل الأوروبيين، وحتى عند وكلائهم وتراجمهم من أتباع السلطان، ومن الرعايا المحتقرين ليتجنبوا خدمة الصف استنادًا إلى المعاهدات التي تضمن حصانة العاملين في القنصليات »

لقد أهين الشعور الديني للمسلمين بشدة كما يقول قسطنطين بازيلي حتى كان بعضهم يقول لبعض «الدولة صارت دولة نصارى خلصت دولة الإسلام »، وقد بلغ الحال في ثورة الشام الأولى أن شابًّا تركيًّا ذهب من يافا إلى نابلس حيث صنع صليبًا من الخشب، وصعد إلى مأذنة الجامع الكبير في نابلس وبيده ذلك الصليب، فأخذ يصيح من فوق المأذنة: هل ذهب دين محمد وانقضى ؟ هل ارتفع الصليب على الهلال؟ من كان منكم مسلمًا فليقاتل هذا النصراني إبراهيم باشا.

ويمكن اختصار الانقلاب الذي تم في أحوال الأجانب والقناصل في قصة المستر فارين القنصل الإنجليزي، فقبل حقبة محمد علي لم يكن يستطع أجنبي «التجول في البلاد إذا لم يكن مرتديًا بالملابس والوطنة أو يحرسه الجند،حتى إن إنكلترا عينت المستر فلرين قنصلًا لها في دمشق في سنة ١٨٢٩، فلم يستطع دخول دمشق وأقام في بيروت»، وظل مقيمًا أربع سنوات حتى ستولى إبراهيم باشا على دمشق فرتَّب له دخولًا أسطوريًّا أورده مؤلف «مذكرات تاريخية» على هذا النحو:

«كان ترتيب دخوله (هكذا) طَلَع لملاقاته عمر بك أمير اللواء، واستنظره في قصر عبد الرزاق باشا الذي بالمرجة، وصُحْبته ألف عسكري نظام، كان برفق القنصل حاضر من بيروت أربعة وعشرون خيال في بيارق النظام، وقواصته عدة ثمانية وعبدين وتراجمين ثلاثة وكيخية وخزندار، وحول في قصر عبد الرؤوف باشا عند عمر بك وتفكجي باشي وستقام مقدار نصف ساعة،وقام ركب،ومشيوا قدامه ألف عسكري نظام في الموسيقا،وبين باشي وبعده ثلاثين قواص من قواصة الوزير، بعده الخيالة الذين حضروا معه من بيروت ببيارقهم، وبعده التفكجي باشي وجماعته، وبعده قواصته الابسين طقومة وردي جزايرلي مقصب،وبيدهم عصي فضة مكوبجين (ذات قبضة) على كسم صليب، وبعدهم التراجمين في الشالات الكشمير في خيل من الخيول الجياد، عدته مشغولة في الصرما، ولابس على رأسه برنيطة محجرة بالألماس، وفي رأسها جملة ريش أبيض وأحمر، ويرمي سلام،ووراه كيخية وخزنداره وعبيده،وتنظر العالم [أي: وترى الناس] منتشرة من عند قصر المرجة شي لا ينحصى.

وحكم طريق على الدوالك، على بيت يوسف باشا، على باب السرايا، على سوق الأروام وسوق الجديد، على باب القعة، على باب البريد، على سوق الحرير، على البزورية، على ماذنة الشحم، على الخراب، على طالع القبة، على حمام المسك، على باب توما، على حمام البكري، على زقاق القميمم (القميلة)، على بيته، فكانوا قبل بمدة آخذين له بيت قزيها الذي قدام قناية الحطب، ودخلوا العساكر جميعها لعند بيته فحالًا رفعوا له البنديرة فوق باب البيت على رأس السطوح، وثاني يوم وضع فوق باب البيت نيسان المملكة (الآرما) مصور فيها تاج الملك وحصان وسبع، وكان يوجد قدام باب بيته على مدة سبعة ثمانية أيام مثل فرجة الحاج (بكثرة) الناس فوق بعضها بعض هذا ما كان من مادة دخول القنصل».

طالع أيضًا:

محمد إلهامي يكتب: «في أروقة المحن».. «محمد علي والبلاط الأجنبي»

محمد إلهامي يكتب: «في أروقة المحن».. محمد علي والبلاط الأجنبي «1»

محمد إلهامي يكتب: «في أروقة المحن».. محمد علي والبلاط الأجنبي «2»

محمد إلهامي يكتب: «في أروقة المحن».. محمد علي والبلاط الأجنبي «3»

محمد إلهامي يكتب: «في أروقة المحن».. محمد علي والبلاط الأجنبي «4»

محمد إلهامي يكتب: «في أروقة المحن».. محمد علي والبلاط الأجنبي «5»

محمد إلهامي يكتب: «في أروقة المحن».. محمد علي والبلاط الأجنبي «6»