الأمة ووكالات

عشرات القضاة تم فصلهم تعسفيًا من قبل القابض على كل السلطات قيس سعيد، في سابقة هي الأولى من نوعها، والتي جعلت القاضي التونسي، محمد الطاهر الكنزاري، مصرًا على المكوث في بيته، مضربا عن الطعام ومستلقيا على فراشه، وكله عزم على مواصلة نضاله بطريقة سلمية حتى تتغيّر أوضاع بلاده للأحسن، حسبما قال لصحيفة أمريكية.

مر على الكنزاري 33 يوما دون طعام، حيث فضل الاحتجاج على التغييرات التي أجراها الرئيس التونسي، قيس سعيد، بالإضراب عن الطعام، ورأى في ذلك آخر محاولة منه ومن زملائه المضربين كذلك، للفت الانتباه لما يجري ببلدهم.

وعند استضافته لموفدة صحيفة واشنطن بوست إلى تونس، همس القاضي المنهك قائلا:  “هذه هي الطريقة السلمية الوحيدة للتعبير عن أنفسنا، لا توجد وسيلة أخرى”.

فريق طبي تونس قيّم حالة الكنزاري على أنها خطيرة للغاية لدرجة أنه اضطر إلى نقله إلى المستشفى. 

والآن هو في وحدة العناية المركزة، ورغم ذلك “يواصل إضرابه” على حد تعبير الصحيفة الأمريكية.

احتج الكنزاري، وهو قاضي محكمة الأحداث، على إقالته من منصبه الشهر الماضي، بعد أن أصدر سعيد مرسوما في الأول من يونيو، يمنح نفسه سلطة إقالة القضاة.

دوافع سياسية؟

كان الكنزاري من بين 57 قاضيا تم فصلهم فجأة واتهموا بالفساد أو حماية الإرهابيين.

يقول خبراء قانونيون إن القرار يبدو أنه “جزء من جهد ذي دوافع سياسية لتقويض استقلال القضاء في البلاد، وضمان قبضة سعيد المتزايدة على السلطة في بلد كان يُحتفل به في السابق باعتباره قصة النجاح الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”.

سعيد قال في تصريح سابق إن الفصل الجماعي جاء بعد أن “أعطى الفرصة تلو الفرصة والتحذير بعد التحذير للقضاء لتطهير نفسه”.

والكنزاري هو واحد من عدة قضاة تونسيين تم عزلهم، ويطالبون الآن بالرجوع الفوري عن المرسوم.

بدأ الكنزاري الإضراب عن الطعام رفقة عدد من زملائه، تم نقل اثنين منهم  إلى المستشفى، الخميس.

وبينما تم السماح لأحدهم بمغادرة المستشفى، قرر هو مواصلة إضرابه، رغم الخطورة على حياته.

سابقة

مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين، دييغو غارسيا سايان، قال إنه ليس على علم بوجود قضاة في أي بلد آخر شاركوا في إضراب عن الطعام، مما يؤكد خطورة قلق القضاة التونسيين على مصيرهم، ومصير القضاء في البلاد.

وقال إن من الممارسات الشائعة بين المستبدين تركيز “جهودهم على مهاجمة القضاء والسيطرة على المحكمة العليا وفصل القضاة”.

بولندا والمجر هما من أبرز القضايا التي اتُهمت فيها السلطة التنفيذية بتجريد القضاء بشكل منهجي من الحماية من القضاء أو اختيار قضاة موالين للحكومة – مما أدى إلى “توبيخهما” من الاتحاد الأوروبي.

وشدد غارسيا سايان في حديث لواشنطن بوست، على أن أحد العناصر الأساسية للديمقراطية هو القضاء المستقل “ليس كحق للقضاة فقط، ولكن بشكل أساسي كحق للمجتمع”.

وأبدت الأمم المتحدة مخاوف بشأن استقلال القضاء في تونس بينما ينتظر خبراؤها الدخول لتونس بعد عدة أشهر، في زيارة رسمية من شأنها أن تسمح لهم بالتحقيق في الوضع.

ومثل هذه الزيارة مطلوبة من أجل كتابة تقرير رسمي لتقديمه إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف.

وتونس هي الديمقراطية الوحيدة التي خرجت من الربيع العربي بنجاح نسبيا مقارنة بالدول الأخرى التي انزلقت لأوضاع أمنية خطيرة.

وفي عهد الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، افتقر القضاء إلى الاستقلالية وكان يسيطر عليه إلى حد كبير الفرع التنفيذي للحكومة. 

الدستور 

كفل دستور ما بعد الثورة بعض التوازنات من خلال تعزيز استقلال القضاء وإنشاء مجلس قضائي أعلى مستقل مكلف بالإشراف على شؤون القضاة.

ثم، في الصيف الماضي، وسط الخلافات السياسية وتأكيد سعيد بأن نواب الشعب لم يكونوا فاعلين، علق البرلمان وأقال رئيس الوزراء.

وشجب البعض الخطوة على الفور ووصفوها بأنها انقلاب غير قانوني، بينما احتفل آخرون، ومعظمهم كانوا من المحبطين من سنوات الجمود السياسي.

لكن تعليق عمل البرلمان سرعان ما أعقبته تحركات أخرى مثيرة للجدل، بما في ذلك حل مجلس القضاء الأعلى المستقل وإقالة القضاة لاحقًا.

تقرير واشنطن بوست وصف الوضع بالقول إن “قرارات سعيد تشير إلى عدم إيمانه بمبدأ الفصل بين السلطات” المنصوص عليه في دستور 2014 وتفضيله أن تكون جميع أفرع الحكومة تابعة له”.

والاثنين الماضي، تم تمرير دستور جديد في استفتاء شارك فيه أقل من ثلث الناخبين المؤهلين.

وحذرت لجنة الحقوقيين الدولية في بيان قبل الاستفتاء من أن “القضاء هو الضابط الوحيد المتبقي على السلطة التنفيذية في تونس”.

معركة خاصة

لذلك، يخوض القضاة “معركتهم الخاصة” ضد ما يقولون إنه تفكيك نظام الضوابط والتوازنات الضروري لديمقراطية فاعلة.

وقال سعيد بن عربية، مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في لجنة الحقوقيين الدولية، إن مرسوم يونيو وإقالة الكنزاري وآخرين هو مجرد جزء من “حملة التشهير أطلقها الرئيس منذ البداية حول الفساد القضائي”.

وقال إنه من بين 57 قاضيا تم فصلهم في 1 يونيو، لم يتم رفع أية قضايا ضدهم قد تنطوي على قضايا فساد.

من جانبه، قال يوسف بوزخر، الذي تم عزله من أعلى محكمة استئناف في تونس وكان رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، إن على الرئيس أن يوضح أسباب إقالة القضاة.

وتابع “إذا لم ينشروا الاتهامات فلا وجود لهذه الاتهامات، فينبغي التراجع عن هذا المرسوم”.

أنس حميدي (50 عاما) وهو رئيس جمعية القضاة التونسيين، قال من جانبه إن الإقالات المفاجئة خلقت ثقافة ترهيب بين القضاة الآخرين الذين يخشون عزلهم دون سبب.

وأردف: “من واجبنا مساعدتهم”،  بينما أوضح أن نظام قيس سعيد لم يتوقع كل هذا التضامن، إذ كان يعتقد، وفقه، أن القضاة التونسيين سوف ينحازون إلى نظامه.. لقد صُدم وذهل ليس فقط من المقاومة، ولكن من مستوى المقاومة”.