كانت أولى الضربتين ضد الربيع تمثلت في تعثير الثورة في سوريا بتدخل إيران وروسيا وداعش والحلف المزعوم ضدها ثم بالانقلاب في مصر وتعثير شباب ليبيا وشباب اليمن ومحاولات إفساد الوضع في تونس

ثماني سنوات على الربيع العربي..

لعل فضل الربيع العربي-الذي يعتبره حلف الثورة المضادة مؤامرة على العروبة والإسلام لكأنهما بحاجة لمؤامرات حتى يصيبها ما هم علته الأساسية-هو أنه أجبر أعداءه على كشف أوراقهم كلها فافتضحت أجنداتهم التي تنكر بالقومية والإسلام والممانعة وكل القضايا التي لم تتجاوز دور براقع التنكر.

مثل الربيع العربي -وهذا الدور وحده يبين أهميته في لحظة الامة التاريخية- الريح العاتية التي عرت كل الأجندات وخاصة غياب المشروع العربي أو الإسلامي. فالأنظمة العسكرية التي تدعي القومية والحداثة والأنظمة القبلية التي تدعي الأصالة والاسلام هي هذه الشعارات الأربع: هي محميات وليست دولا.

كانت توابع قسمت الامة إلى محميات أمريكيات ومحميات سوفياتية في النصف الثاني من القرن الماضي وصارت توابع لذراعيهما وذيليهما إسرائيل وإيران في الخمس الأول من هذا القرن. وحصل اتحاد بين الانظمة لحماية استبدادها وفسادها وحماتهم لتمزيق خط الدفاع الاخير عن وحدة شعوب الإقليم المتعددة.

وهذا التوحيد لساحة المعركة بين الثورة والثورة المضادة هو الذي يعطيني الحق في الكلام على ما يجري في الإقليم كله لأن انظمته -باستثناء نظامين عربي ومسلم-اتحدت ضده بدعوى أنه مؤامرة ضد الاوطان لكأنهم كانوا من حماتها أو من رعاة مصالحها المادية والروحية وهم مجرد محميات تابعة.

وكان يمكن أن تقبل تهمة المؤامرة للربيع لو حصل قبله وبعده ما يفيد أنهم يحضون باستقلالية دفعت بالقوى الأجنبية إلى التآمر عليهم واستبدالهم بمن هم أكثر منهم تبعية (قبله) أو لو كان الغرب المتآمر الآن يقف وراء الربيع وليس وراء الثورة المضادة المؤلفة من المحتمين بإسرائيل وبإيران في آن.

والربيع لم يكتف بفضح هذا الحلف المضاعف بين الأنظمة القبلية والعسكرية العربية بحلف صريح بين الأولين واسرائيل والثانين وإيران بل هو انتصر عليهم ما اضطر هذه الانظمة إلى عدم الاكتفاء بحماية الذراعين وللجوء إلى من ورائهما أي روسيا وأمريكا وحتى الدواعش الذين لم يحاربوا إلا شباب الربيع.

ولما كانت أولى الضربتين ضد الربيع تمثلت في تعثير الثورة في سوريا بتدخل إيران وروسيا وداعش والحلف المزعوم ضدها ثم بالانقلاب في مصر وتعثير شباب ليبيا وشباب اليمن ومحاولات إفساد الوضع في تونس فإن من واجب أي عربي أن يتدخل فيما جعل صدام الثورة والثورة المضادة حربا أهلية عربية.

فإن الحصيلة هي تشابك الوضعية الاستراتيجية في شكل أربع حروب ضمن الحرب الاهلية العربية:

(1) حرب الثورة والثورة المضادة

(2) حرب القوميات التي بدأت تتنامى في المشرق (الاكراد) والمغرب (الأمازيغ)

(3) حرب الطائفيات الدينية والفرقية في نفس الدين

(4) حرب المشروعات الثلاثة في غياب المشروع العربي

والربيع العربي يتناهشه الكل: لأن الكل يحاربه لخوفه من عدواه وخاصة من إعادة الامة إلى الاخوة والتكامل المتقدمين على تبني شعوب دول الإقليم الدولة القومية المبنية على تمزيق المشترك الجغرافي (سايكس بيكو وما يناظره في المغرب والخليج) والتاريخي (ببعث ما تقدم على التاريخ الإسلامي).

ومعنى ذلك أن اهل الإقليم هم بأنفسهم من يقضي على المشترك بينهم وإحياء ما تقدم عليه أو ما تلاه حتى يؤسسوا دويلات هي بالجوهر محميات بسبب ما حل بالجغرافيا والتاريخ من فقدان شروط الحجم المؤسس للقوة المادية والروحية شرطين للسيادة وعدم التبعية كما تثبت ذلك القواعد.

ولا يصدقن أحد عنتريات إيران: فهي أيضا محمية بدليل حاجتها إلى سند حتى تصمد (روسيا لسبب استراتيجي وألمانيا لسبب عرقي) مثل كوريا الشمالية (روسيا والصين). وكذلك إسرائيل فهي محمية أمريكية وحتى تركيا لم تجد بعد حلا وإن تقدمت لوجودها بين فكي كماشة روسيا وأمريكا.

لذلك كله لا يمكنني ألا أبدي رأيي فيما يجري حاليا في سوريا واليمن وخاصة في مصر. ذلك أنه إذا لم تتجاوز مصر نكبتها فإن الربيع قد يهزم لقرن كامل والعرب من الماء إلى الماء سيكون مآلهم تقاسم القوتين الأكبرين وذراعيهما كامل أرضهم وحتى تركيا فهي مهددة مثل العرب.

والأتراك مدركون لهذا المآل الممكن وتأييدهم للربيع دليل على ذلك: فهم يرون أن كل المتحالفين على الربيع متحالفون عليها لكنها تناور حتى لا تغرق مع الهلال. العرب والأتراك هدف كل هذه الحروب الأربعة التي ذكرتها. يعلمون أن علاقة الغرب بالإسلام بدأت عربية وانتهت تركية ولا يريدون تكرارها.

ولهذه العلة نصحت معارضي السيسي أن يؤيدوا أي تحد جدي له في الانتخابات وخاصة إذا كان من العسكر نفسه: فهذا له فائدة مضاعفة سواء أبعد السيسي أم بقي. ذلك أن المعركة سيكون لها آثار جيدة للمناخ السياسي المصري في كلتا الحالتين. وحكم دام ستة عقود ليس من اليسير قلعه بضربة واحدة.

لكن ما أقرأه من مواقف المعارضين أجده حقا في حالة يرثى لها: لست أدري هل هو جهل بحقيقة الوضع وبطبيعة التغيير السياسي في البلاد التي ليس لشعوبها ما يكفي من الوعي والزخم الثوري اللهم إلا إذا كانوا ينتظرون التعفن المطلق الذي ستكون نتيجته فقدان مصر لوحدتها ولدورها في الإقليم.

الأمر الملح والعاجل حاليا هو خلخلة وضع السيسي الذي أيا كان البديل منه سيكون أفضل وحتى لو بقي مع ما سيحصل من خلخلة بمرشح آخر من الجيش من جيل اقل عمالة لإسرائيل فإن ذلك فيه رحمة على الحياة السياسية المصرية التي هي مفتاح الفرج لمصر وللربيع وللإقليم.

انتظار أكثر من ذلك في مصر التي هي على شفا جرف دليل سذاجة سياسية وعدم حكمة استراتيجية في علاج وضعية قد تنتهي إلى تفشي سرطان لا علاج له خاصة ومصر قد أصبحت ألعوبة بيد رجل غبي وسخيف وعميل بلا حد همه الاول والأخير جمع الرز للهروب بعد أن يتم مهمته الإسرائيلية في تهديم مصر.

فبعد العراق وسورية ومصر والسعودية سيأتي دور الجزائر وربما المغرب وبذلك يصبح الإقليم الذي يسمى وطنا عربيا في خبر كان وبذلك يتحقق للذراعين الإيرانية والإسرائيلية ما خططا له بلعبة العداء الكلامي والتحالف الفعلي لضرب العرب والاتراك واتمام ما بدأوه في الحرب العالمية الأولى.

ورغم أني لا أثق في عسكري حاكما لامتناع الجمع بين الديموقراطية والحرية والذهنية العسكرية فإني مع ذلك اعتقد أن ترشيح عنان دليل شروع المؤسسة العسكرية في مصر في إدراك ما تتعرض له بلادهم من خطر قد يكون ذهابا إلى الانحطاط المطلق بلا رجعة. وكل من يفرط في هذه الفرصة سيندم.

وكنت سأفهم المعارضين لهذا الترشح لو كان لهم بديل معقول. فلا بديل عن السيسي إلا عسكري اقل عمالة وأدرى أقل غباء. فإذا كانت المؤسسة العسكرية قد بدأت تشعر بضرر السيسي وتجندت لدرء هذا الضرر فعلى الجميع الاصطفاف معها وإن بشروط لعل من اختارهم للكلام باسمه بداية ضمانة.

من د. أحمد الشربيني

باحث في علم الأتمولوجي، دكتوراة في علم اللغة والدراسات السامية والشرقية