قليل من المؤرخين يرسم لنا اسم القائد العسكري الذي تقدم جيش الفاطميين بصيغة «الصقلبي»، في مقابل الأغلبية التي ترسمه على صيغة «الصقلي»، ومن ثم يتسرب إلى خيالنا أن جذوره من جزيرة صقلية في البحر المتوسط.

المدهش أن المقريزي وهو مرجعنا العظيم قبل نحو 600 سنة تحاشى أن يكتب الاسم بصيغة «الصقلبي» أو «الصقلي» وكان دوما يبادل الرسم عشرات المرات إما باسم «جوهر القائد» أو «القائد جوهر».

حارة «الصقالبة»

تزداد الإثارة حين نعرف أن تخطيط مدينة القاهرة مع الغزو الفاطمي ضم واحدة من الحارات الشهيرة التي حملت اسم «الصقالبة»

وخصصت لطائفة من الجند جاءوا برفقة الجيش الفاطمي الزاحف من المغرب معتنقا المذهب الشيعي

الذي لا علاقة له بالضرورة بجذور هؤلاء الصقالبة الذين جاءوا إما من جذور وثنية أو مسيحية قبل أن يعتنقوا الإسلام لاحقا.

قبل سبع سنوات وفي قلب العاصمة موسكو، وفي مؤتمر عن العلاقات العربية الروسية،

انتظر أستاذ عراقي وقور بعد انتهاء إلقاء ورقتي البحثية وسألني بكل مودة:

لماذا أجمع المؤرخون والجغرافيون قبل ألف عام على تسمية الروس باسم «الصقالبة»؟ ما معنى هذه الكلمة وكيف دخلت إلينا؟

احتجت أربعة أعوام حتى أتوصل إلى الإجابة،

فخلال ترجمتنا لكتاب «تاريخ روسيا من القبيلة إلى الأمة» تبين لنا من خلال ما قدمه المؤرخ والجغرافي السوفيتي الشهير «ليف غوميليوف» أن تحريفا معتادا حصل في نقل الأسماء البيزنطية إلى الصياغة العربية.

لقد كان البيزنطيون في جنوب شرق أوروبا وحوض البحر الأسود هم الأكثر اتصالا بأجداد الروس وقد شاع بينهم الاسم على صيغة «سكيلاﭪ» وهذه الكلمة الأخيرة هي نفسها الكلمة التي تعرفها اللغات الحديثة باسم «السلاﭪ».

«سكيلاﭪ» «سكلاب» «صقلاب»

وحين نقل العرب كلمة «سكيلاﭪ» من اليونانية قلبوا الفاء إلى باء، وهي عادة تتكرر في كثير من الحالات،

ومن ثم أصبح اسم الشعوب التي ينتمي إليها الروس «سكلاب» ومنه «صقلاب» و«صقالبة» وهو الرسم الذي ينتمي إليه جوهر الـ«صقلبي».

الصقالبة إذن هم الروس في تعميم مخل، لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل. فشعوب الصقالبة

أو السلاﭪ هم مجموعة بشرية «لغوية» كبرى تشمل الروس وغيرهم وهي مجموعة “لغوية” بمثل ما هي “عرقية”

أو جنسية وقد دأبت المصطلحات الأجنبية على أن تجمع الصفتين معا في مسمى ثنائي «لغوي عرقي  ethnolinguistic».

الاستغلال السياسي للتصنيفات الجنسية

والحقيقة أن الاستغلال السياسي للتصنيفات الجنسية والعرقية جد خطير

وتسبب في حروب وكوارث على البشرية تجلت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حين استخدمت النظريات العلمية لتسويغ أفضلية عرق على آخر،

والتي تجلت في أن العرق النوردي أو التيوتوني أو الألماني هو أرقى الأجناس وأعلاها ذكاء ومقدرة،

ومن ثم قامت النظرية النازية التي ترجمت على أرض الواقع إلى حروب ودمار بدعوى أفضليتهم على بقية الأجناس رغم ما اتضح لاحقا من تهافت هذه النظريات وعدم وجود أساس علمي لها.

دعونا نبقى مع الصقالبة أو  السكيلاف «السلاﭪ» الذين جاء منهم جوهر القائد لغزو مصر كطليعة للإمبراطورية الفاطمية.

تشمل شعوب السكيلاﭪ «السلاﭪ» أطيافا كبيرة تتجاوز الشعب الروسي، إذ تضم شعوبا عدة في شرق أوروبا، وقد تم تصنيفهم جغرافيا إلى ثلاث شعب:

– سلاﭪ الشرق «الروس – البيلاروس- الأوكران»

– سـلاﭪ الغرب «السلوفاك – التشيك- البولنديون»

–  سلاﭪ الجنوب أو الـ«يوجسلاﭪ» وهو مسمى استعارته تلك الجمهورية التي تفككت قبل 30 سنة

وفقدت اسمها لصالح جمهوريات أصغر (مثل صربيا والجبل الأسود وسلوفينيا وكرواتيا والبوسنة) ومعهم أيضا البلغار والمقدونيين.

على هذا النحو فإن وصف جوهر القائد بأنه جوهر الصقلـ«بـ»ـي يعني أنه من تلك الشعوب

التي عرفت باسم السلاف أو السكلاب «الصقالبة» وفق التحريف الذي جاء من النقل العربي عن الأصل اليوناني.

كيف وصل جوهر الصقلبي إلى البلاط الفاطمي وترقى فيه إلى أن أصبح فاتح مصر المغوار؟

ترجعنا المصادر إلى سردية متكررة وهي أن جوهرا  كان من بين الأسرى أو العبيد الصقالبة

الذين تم بيع والده لمن يشترى من القوى الكبرى حتى ترقى جوهر الابن في المضمار العسكري ليصبح قائدا،

على غرار حالة المماليك التي ستعرفها مصر بشكل أوضح في القرون التالية.

جوهر القائد أو جوهر الصقلبي ينتمي وفق هذه المصادر إلى طبيعة حروب المرتزقة

التي شاعت في القرنين التاسع والعاشر قبل أن تكون هناك دولة اسمها روسيا بالمعنى السياسي،

وقبل أن تكون هناك إلا إمارات متناحرة في شرق أوروبا تنتمي كلها إلى المجموعة اللغوية-العرقية المسماة سكيلاﭪ.

في هذه الحروب

كان السكيلاف «السلاﭪ أو الصقالبة» يتطوعون للعمل لصالح القوى الكبرى المحيطة بالبحر الأسود جراء مبالغ من المال وإقطاعات من الأرض، وكانوا يعملون أجراء مرتزقة لصالح بيزنطة المسيحية والخزر اليهودية والخلافة الإسلامية.

لم تكن هناك دولة تجمعهم بشكل شامل، وكانوا يتطوعون للعمل الحربي بأنفسهم مقابل أجر ومال أو يتم بيع المهزومين منهم في سوق الأسرى حال هزيمتهم.

اكتسب السكيلاف بأسهم وقوة شكيمتهم وتيبس مشاعرهم في القتل والنحر من البيئة الصعبة في شرق أوروبا.

كانت المنطقة فيما بين البحرين الأسود وبحر البلطيق قبل ألف سنة لا تصلح إلا ليعيش فيها ما يمكن تسميتهم أناس أشداء صورتهم بعض أفلام هوليود وحوشا كاسرة أو آكلي لحوم البشر.

حين شن الفاطميون هجومهم على مصر بقيادة جوهر الصقلـ(بـ)ـي كانت أهم دولة للصقالبة في شرق أوربا هي إمارة كييـﭪ الروسية،

كييـﭪ نفسها هي التي تحمل اسمها اليوم عاصمة أوكرانيا التي تشهد الحرب والتدمير في عام 2022.

يبدو أني أطلت عليكم وزاحمت عليكم الأسماء والشعوب، ولم يكن لي من هدف سوى أن أقول إن حوادث التاريخ تبدو في الظاهر بعيدة ومتفككة وكأنه لا علاقة للقرن العاشري الميلادي بالقرن الحادي والعشرين،

كما يبدو من الظاهر أنه لا علاقة لمصر والمغرب قبل ألف سنة بالسكيلاف أو الروس والأوكران في كييف في شرق أوروبا.

لكن الحقيقة أن العلاقات وثيقة ومتشابكة ليس فقط على المستويات اللغوية وجذور الكلمات «الصقلبي وحارة الصقالبة في القاهرة»

بل وعلى المستوى الجيوسياسي وانتقال تجارب الأمم عبر العصور وخريطة العالم المعاصر.