هذا العنوان الذي ربما يبدو مثيرا أو لافتا ينبني في الحقيقة على عدد من الحتميات والحقائق التي يحاول العقل الجمعي في مجتمعاتنا تجنب الخوض فيها مفضلا تحكيم العاطفة واستعادة الذاكرة وحلاوة طعم أيام البراءة والطوباوية الحالمة..

من غير التعاطي مع المنطق والواقع، بعيدا عن الغرق في مستنقعات التحيزات المتعصبة في كافة المعسكرات الفكرية،

حتى بات المعسكر الفكري (الأيديولوجي) بمثابة القبيلة التي تُثار مشاعرها بحمية الجاهلية لا بإعمال العقل في التفكير والتدبر الذي أمرنا المولى عز وجل بإعماله!

حتى بات كل معسكر يتبع الأحمق المطاع بدلا من أن يقوده ويوجهه الحكيم الواعي! فمن هذه الحتميات:

أولا:

حتمية النهاية التاريخية لحقبة العمل الإصلاحي والدعوي بواسطة جماعات العمل الحركي برمتها التي تعرف اختصارا باسم الجماعات الإسلامية،

وذلك لأسباب بعضها سنن ربانية تاريخية، فلن تعمر دعوة إصلاحية في طور الازدهار أكثر من قرن من الزمان،

ولعل هذا سر تخصيص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأس كل قرن لبعث مصلح أو هيئة إصلاحية تجديدية جديدة،

وهو ما شهد به تاريخ المسلمين كله قياسا بأعمار الدول والإمبراطوريات المسلمة في أوج ازدهارها قبل الانهيار لتستلم الراية من بعدها فئة جديدة..

وكذلك لأسباب داخلية خاصة بالبناء الفكري والمؤسسي والتنظيمي لتلك الجماعات ذاتها.. كما لأسباب خارجية محلية وإقليمية ودولية ضاغطة،

وفي تقديري أن الأسباب الداخلية والخارجية ما هي إلا ستار لتحقيق حتمية انتهاء الصلاحية التاريخي..

لن أكون مغاليا أو منجِّما إذا ذكرت أنه لن يحل علينا عام 2028م إلا وقد تحولت كبرى تلك الجماعات تأثيرا وعددا وتنظيما وانتشارا إلى أثر تاريخي بعد عين،

وسيكون هذا بفعل أبنائها قبل أي جهة أخرى..

وفي أحسن أحوالها ستصبح ذكرى على هامش الحياة معزولة عنها عزلة تامة، منزوعة التأثير، منعدمة الوظيفة!

ثانيا:

إن تلك الجماعات الإسلامية أيا كان تصنيفها إصلاحية أو ثورية أو قتالية إنما نشأت كحالة رفض شعبي للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة إبان تأسيسها،

فهذه الجماعات نشأت شعبية حيث لم تنبثق من أي مؤسسة رسمية سواء كانت سلطة حاكمة أو مؤسسة المرجعية الدينية، فكان تأسيسها بالجهود الشعبية بالكامل،

ثم هي تمثل حالة رفض للواقع فقامت لتصلح هذا الواقع أو تغيره،

وإذا كان دورها التاريخي قد انتهى، فلا بد للشعوب من إيجاد صيغ أخرى جديدة لممارسة العمل الإصلاحي والدعوي.

ثالثا:

إن الحاجة للتطوير والإصلاح حالة مستمرة مضطردة لا تتوقف عند فترة زمنية محددة، وبالتالي فإن الحاجة إلى العمل الإصلاحي ما زالت موجودة وملحة،

وتحتاج إلى تضافر كافة الجهود سواء المؤسساتية أو الشعبية حتى إكمال مشروع الإصلاح،

وهو كما ذكرت مشروع دائم الاستمرارية ليس له سقف محدد، وبالتالي كلما تم إصلاح جانب من الجوانب دعت الحاجة إلى إصلاح جانب آخر،

وحتى ما تم إصلاحه يحتاج إلى تعديل وتطوير وتحسين وتجويد، فالإصلاح عملية لا نهائية.

رابعا:

إن طبيعة العمل الإصلاحي ذاتها هي التي تفرض قيام المصلحين بأدوارهم، فهي طبيعة كفائية،

فإذا قامت جهة سواء رسمية أو مرجعية دينية أو هيئة شعبية بعملية إصلاح في مجال ما،

وأتمته على الوجه الأقرب للكمال، انتفت الحاجة تلقائيا إلى جهود إضافية للعمل في ذات المجال،

وإنما تنشأ الحاجة إلى الجهود الشعبية في الإصلاح عندما لا تسد الجهود الرسمية الحاجة الإصلاحية،

أو تتغافل عنها، فيحدث فراغ إصلاحي يستدعي جهودا شعبية إضافية للعمل الإصلاحي التطوعي..

التطوع للإصلاح إذن لا ينشأ إلا من حاجة حقيقية، هذا يفسره حال رجل يتناول الطعام على مائدة في منزله فقد يتطوع للمساعدة مع أهله في جلب بعض أنواع الطعام إلى المائدة،

وقد يتطوع بحمل الأطباق الفارغة بعد تناول الوجبة، وربما تطوع بإعداد مشروب بعد الوجبة، وإذا كان يتناول وجبة طعام مع أصدقاء فربما تطوع ببعض تلك المساعدات..

لكنه إذا تناول وجبة طعام في مطعم فلن يتطوع بتقديم أي مساعدة،

لأن المطعم مؤسسة لها عمال يقومون بهذه الخدمات في إطار عمل مؤسسي يؤدونه بمهارة وكفاية ويتقاضون عليه أجرا..

فإذا أدت المؤسسة دورها بكفاءة انعدمت الحاجة للتطوع.

خامسا:

تظل الجهود الشعبية في مجالات الدعوة والإصلاح التطوعية ضرورة ملحة في ضوء عدم إدماج تلك الجهود التطوعية في مؤسسات رسمية من جهة،

ومن جهة ثانية اقتصار عضوية مؤسسة المرجعية الدينية على أعضائها الذين التحقوا بها غالبا وهم أطفال صغار بتوجيه من أسرهم،

وكذلك كون هذه الجهود الإصلاحية والدعوية التطوعية تبقى خارج إطار المنافسة السياسية الحزبية على تداول السلطة،

فعلى ذلك ينتفي عن العمل التطوعي الشعبي انتسابه إلى مؤسسة حكومية،

أو مؤسسة مرجعية دينية كالأزهر الشريف في مصر، أو حزب سياسي أو حركة سياسية هدفها المشروع المنافسة على التداول السلمي لسلطة الحكم.

مستقبل العمل الإصلاحي والدعوي التطوعي الشعبي:

إن مجتمعاتنا مهيئة الآن أكثر من أي وقت مضى لقيام مؤسسات إصلاحية ودعوية شعبية تطوعية

على غرار ما نهضت بمجتمعات العالم الجديد غربه وشرقه من منظمات المجتمع المدني، وهي مؤسسات تقوم على خصائص أبرزها:

1 – العلنية الكاملة أهدافا ومنهجا وعضوية وتمويلا وميزانية.

2 – التقنين الكامل وفق القوانين واللوائح المنظمة للعمل الأهلي التطوعي في كل قطر،

وفي حالة عدم استيعاب القوانين المعمول بها لتأسيس هذه النوعية من المؤسسات فإن الجهاد القانوني هو الحل الوحيد حتى الوصول إلى التقنين الكامل.

3 – التخصص لتركيز الجهود الإصلاحية والتطوعية في مجال محدد لتحقيق الإنجاز والإتقان.

4 – التكامل والتشبيك بين مؤسسات المجتمع المدني فهي لا تتخاصم أو يعادي بعضها بعضا.

5 -البناء المؤسسي القائم على تحديد ووضوح الهدف-شروط العضوية-واجبات الأعضاء- اللوائح المنظمة-آلية اختيار الهيكل الإداري-الشفافية-المحاسبة المتبادلة.. حرية المشاركة وحرية المغادرة..

إننا إذن بصدد مؤسسية على غرار منظمات المجتمع المدني لا مجال فيها لسياقات ليس لها محل في العمل التطوعي العام،

مثل بيعة إمام أو أمير، وداخل صف وخارج صف، وطاعة واجبة، إلى غير هذه المصطلحات التي لا تنطبق على هذا النوع من العمل،

وتنتهي إلى الأبد إشكالية المصطلحات الأربعة المشكِّلة لوعي أعضاء الجماعات الإسلامية (البيعة-الصف-الجماعة-الدعوة)..

إنها رؤى إصلاحية قائمة على التعاون على البر والتقوى، والالتزام بمبادئها ولوائحها هو نوع من الوفاء بالعهد تكفره (في الحكم الشرعي) حال القعود عنه كفارة يمين!

مستقبل النضال السياسي في عالم ما بعد الجماعات الإسلامية:

إن قيام الجهود الشعبية التطوعية في مجالات الدعوة الدينية وميادين الإصلاح العام،

لا تتنافى مع حاجة المجتمعات إلى التدافع السياسي من أجل مواجهة الاستبداد السياسي وبوادره،

وتحقيق تشاركية أكبر في صناعة القرارت المصيرية للوطن، وصولا إلى تداول سلمي للسلطة السياسية تحقق الرقي بالمجتمع..

هذا النضال السياسي له مساراته المعمول بها عالميا دون خلط بين العمل السياسي العام والعمل التطوعي العام -إذ لا مجال للخلط بينهما-

ومن تلك المسارات السياسية معركة الوعي العام من أجل أن تدرك الغالبية العظمى من الشعب الثوابت القيمية التي تعد بمثابة الأمن القومي المجتمعي،

وتدرك كذلك تلك الأغلبية حقوقها السياسية والقانونية،

ومصالحها المشتركة، هذا الوعي العام بإمكانه وقف أي محاولة للاستبداد السياسي..

ثم مسار جماعات الضغط السياسي،

وهي حركات مجتمعية وطنية تؤثر في صنع القرار السياسي دون أن تمارس عملية المنافسة على السلطة،

أو تطرح نفسها كبدائل محتملة للنظم الحاكمة،

وصولا إلى إنشاء وتقوية الأحزاب السياسية التنافسية، لتحقيق توازن حقيقي بين القوى السياسية المختلفة المتحكمة في المشهد السياسي،

ومن لا تسعفه الأوضاع لتأسيس حزب جديد يحمل مرجعيته الفكرية كاملة،

فليقوي حزبا سياسيا قائما قريبا إلى أفكاره أو يتقاطع مع بعضها،

وحسب الدولة أن يكون بها حزبان كبيران قويان يتنافسان على إرضاء الكتل الفكرية والثقافية والمصالحية التي تمثل كل أطياف الشعب..

ولن يكون طريق النضال السياسي السلمي مفروشا بالورود والرياحين،

لكنه سيصبح إذ ذاك صراعا في موقعه، تقدَّم من أجله التضحيات في محلها.