استحق بجدارة لقب «القاضي الفاضل»؛ لأنه التزم بالحق والقانون، ولم يخضع للترهيب أو الترغيب، وكان مثالاً للنزاهة والعفّة في القول والسلوك، ثم إنه في مسيرته الفكرية كان شجاعاً في تحوّله إلى الصواب حين اكتشف القصور في المجال الذي نشط من خلاله.

ما بالكم برجل يلغي قرار رئيس الدولة (محمد حسني مبارك) بإحالة إحدى القضايا إلى القضاء العسكري التي حكم فيها بالإعدام؟ يقول الكاتب الصحفي فهمي هويدي، في مقال له عام 2015م: «حين عرض الأمر على محكمة القضاء الإداري التي كان يرأسها (طارق البشري)، كانت حجته في ذلك أن القانون أجاز إحالة نوع معين من القضايا إلى القضاء العسكري في حالة الطوارئ، ولكن قرار رئيس الجمهورية أحال قضية بذاتها إلى قاض ومحكمة بذاتها؛ وهو ما يخل بالعدالة ويعدّ مخالفة تجعل القرار مشوباً بالبطلان».

كان من الطبيعي أن يصدم القرار الكهنة الذين لم يتوقعوا أن يُصدر قاضٍ حكماً ببطلان قرار «الفرعون»! فتعرض للهجوم من بعض الكتَّاب، وأوعز الكهنة إلى وزير العدل آنذاك أن يعالج الأمر من خلال صنف آخر من القضاة ذاع أمرهم وارتفعت أسهمهم فيما بعد؛ فحققوا ما أراد «الفرعون» بإلغاء الحكم وتنفيذ الإعدام!

والأمر نفسه فعله حين عرض عليه بصورة عاجلة الإفتاء بقانونية التمديد لرئيس مجلس إدارة «الأهرام»، بعدما صدر قرار رئيس الجمهورية بمد سن الإحالة إلى التقاعد من 60 إلى 65 سنة، فرأى بطلان قرار التمديد للرجل لأنه صدر بعد بلوغه الستين، وفرصة الإفادة منه كانت متاحة قبل بلوغه تلك السن، ولم يبال بالتوجيهات والحساسيات.

وذكر مصطفى الفقي (سكرتير مبارك سابقاً) واقعة لا ينساها كما يقول («المصري اليوم» 2/3/2021م): «عندما كان الرئيس الراحل يجلس على مقعد في عيادة طبيب الأسنان بالرئاسة -وهو ضابط كبير- فإذا به يفاتح الرئيس بشأن مشكلة لابنه في جامعة القاهرة، فناداه مبارك وقال له: اسأل المستشار طارق البشرى -وهو المستشار القانوني لجامعة القاهرة- عن كيفية حل مشكلة الطالب ابن طبيب الأسنان الكبير، فاتصل في الحال بالمستشار طارق البشرى الذي قال: أمهلني ربع ساعة وأرد عليك، وبالفعل أجابه بعد دقائق بأنه لا أحقية للطالب فيما يريد، وقانون الجامعة لا يسمح بتحقيق مطلبه، وقد أبلغ الرئيس على الفور بذلك (ولم يكن ضجراً ولا مستاءً أن طلبه لم يُلَبَّ، بل ردّد عبارات طيبة في شأن حياد طارق البشرى ونزاهته».

ويشير الفقي إلى أنه يتذكر بشيء من الأسى أن منصب رئاسة «مجلس الدولة» حُجب عن ذلك المستشار الجليل والمؤرخ الفذ لأسباب تتعلق بانتمائه الفكري الذي تحول إليه في النصف الثاني من عمره (يقصد الفقي تحوله إلى التصور الإسلامي).

ويضيف أن الدولة استدعت مستشاراً من الخليج ليتولى رئاسة «مجلس الدولة» وتحرم البشري منه، ويقول الفقي: «إن طارق البشرى كان راضياً ولم يأبه كثيراً بما حدث، إلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011م، فتألق نجمه وتردد اسمه بين الجميع باعتباره الفقيه الدستوري الذي يمكن أن ينظر للمرحلة وأن يقنن للمستقبل».

هذه نماذج لبعض المواقف التي عرفت عن القاضي الفاضل الذي يلتزم بالنص القانوني ولم ينحرف عنه ترهيباً أو ترغيباً؛ فقد تربى عليها في أسرة تصدع بالحق في وجه الباطل مهما كان الثمن.

لقد اهتزت الطبقة المثقفة الحقيقية في مصر لرحيل طارق البشري، وشعر الناس أن ركناً من أركان العدالة تهاوى رمزه، وذهب مع الرجل إلى العالم الآخر، وإن كان له تلاميذ، ربما لا يعرفهم، يسيرون على نهجه ويدفعون الثمن مهما غلا.

المفارقة أن المثقفين الاستعماليين الذين يعيشون في كل العصور لم يعجبهم ردّ الفعل العميق لدى أبناء الأمة الذين حزنوا لرحيل الرجل، وأشادوا بفضائله وأخلاقه وحمدوا سيرته الطيبة التي صارت مثلاً في المجتمع الثقافي أو القضائي.

إن رجلاً مثله -كما يقول فهمي هويدي- ظل ثابتاً على موقفه طوال أربعة وأربعين عاماً قضاها في عمله بـ»مجلس الدولة»؛ ما حرمه من مزايا وفرص كثيرة تمتع بها أقرانه، ومع ذلك رفض كل إغراءات الإعارة للعمل خارج مصر؛ ذلك أن المناصب والطموحات الوظيفية لم تشغله يوماً ما، لقد كان منارة مضيئة طوال الوقت ولم تكرمه الدولة المصرية يوماً، وإنما حاصرته وحاربته، لكنه حفر لنفسه مكانة رفيعة في تاريخ مصر والعالم العربي.

المولد والنشأة

ولد طارق عبدالفتاح سليم البشري في 1 نوفمبر 1933م بحي الحلمية بمدينة القاهرة في أسرة البشري التي تعود إلى قرية محلة بشر في مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، وقد كان جده لأبيه سليم البشري شيخاً للسادة المالكية في مصر وشيخاً بارزاً للأزهر الشريف، ووالده المستشار عبدالفتاح البشري رئيساً لمحكمة الاستئناف حتى وفاته عام 1951م، وعمه عبدالعزيز البشري أديباً شهيراً وصاحب أسلوب في مدرسة البيان في النصف الأول من القرن العشرين، وهي -كما نرى- أسرة علم ودين وأدب.

تخرج طارق البشري في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1953م، وعُيّن بعد تخرجه في «مجلس الدولة»، واستمر في العمل به حتى وصل إلى منصب نائب أول لـ»مجلس الدولة» ورئيساً للجمعية العمومية للفتوى والتشريع، وتقاعد عام 1998م.

وتزوج من الكاتبة عايدة العزب موسى، وأنجب ولدين، وقد اختاره المجلس الأعلى للقوات المسلحة رئيساً للجنة التعديلات الدستورية في أعقاب ثورة 25 يناير 2011م.

كان في شبابه منتمياً إلى التيار اليساري الناصري، لكنه تحول إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة عام 1967م، وكانت مقالته «رحلة التجديد في التشريع الإسلامي» أول ما كتبه في هذا الاتجاه، وخلَّف عدداً من الكتب المهمة في القانون والتاريخ والفكر، منها: «الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952»، صدر عام 1972م، «الديمقراطية والناصرية» صدر عام 1975م، «سعد زغلول يفاوض الاستعمار: دراسة في المفاوضات المصرية البريطانية 1920 – 1924م» صدر عام 1977م، «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية» صدر عام 1981م، «الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952 – 1970» صدر عام 1987م، «دراسات في الديمقراطية المصرية» صدر عام 1987م، «بين الإسلام والعروبة – الجزء الأول» صدر عام 1988م، «بين الإسلام والعروبة – الجزء الثاني» صدر عام 1988م، «منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي» صدر عام 1990م، «شخصيات تاريخية» صدر عام 1996م.

وكذلك سلسلة كتب بعنوان رئيس «في المسألة الإسلامية المعاصرة»، بدأ صدورها عام 1996م بالعناوين التالية: «ماهية المعاصرة»، «الحوار الإسلامي العلماني»، «الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر»، «الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي»، تلاها في عام 1998م إعادة إصدار الجزء الأول من كتاب «بين العروبة والإسلام»، ثم الجزء الثاني الذي ضُمت إليه دراستان، وصدر تحت عنوان «بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي – نحو تيار أساسي للأمة»، صدر عام 2011م.

روح المؤرخ

وبصفة عامة، تغلب روح المؤرخ على إنتاج البشري الثقافي، وقد استطاع تجلية كثير من الموضوعات بالنسبة للشريعة الإسلامية ونظرة الإسلام إلى الحكم، بالإضافة إلى كشف مناطق تاريخية بنظرة علمية منصفة، مثل فترة محمد علي في حكم مصر، وفترات القرن العشرين التي ارتبطت بالحربين العالميتين.

ولعل أهم ما كشفه في التاريخ الحديث والمعاصر هو العلاقة بين مكونات الشعب المصري من مسلمين وأتباع للكنيسة، ويهود، وأجانب، وتعد معالجته لموضوع الأقباط (النصارى) من أفضل المعالجات، فقد تناول أوضاعهم السياسية والاجتماعية في زمن حملة «نابليون بونابرت» على مصر (1798 – 1801م)، ومواقفهم في ثورة 1919م، وقد دفعته هزيمة عام 1967م خوفاً على الشعب أن يبحث عن إمكانات المواجهة مع العدو، والقلق من تفكك البنية الشعبية وتماسكها، ورأى أن حصن الأمان للأمة هو امتلاك الذات بوصفه العدة في أي مواجهة، وهو الانتماء باليقين للجماعة الوطنية، وإدراك تميزها عن الطرف الآخر، لذلك يكون الحذر أقوى ما يكون على قوة تماسك الجماعة في الملمات، ومن ثم فهو يشيد بتجربة عام 1919م حيث واجه الشعب الاحتلال البريطاني متحداً ومتماسكاً وجماعة واحدة.

وقد عالج المسألة من خلال الجامعة السياسية في الواقع المعيش عبر كتابه المعروف «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية»، الذي بدأه في مقالات نشرها بمجلة «الكاتب» المصرية (فبراير 1970م)، تحت عنوان «مصر بين أحمد والمسيح»، وكان يظن أن الأمر لا يعدو أن يكون مقالات قليلة، ولكنه يقول بعد المقالة الثالثة: «فلما ضربت الفأس في الأرض هالتني غزارة المادة ووفرتها» (راجع: مقدمة «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية»).

ولا شك أن تعبيره الريفي عن استخدام الفأس في شق الأرض يتلاءم مع القضايا العديدة المتشعبة التي حفل بها الكتاب الذي تجاوز أكثر من سبعمائة صفحة، حيث يتناول قضايا القرن التاسع عشر، والدولة الحديثة، وبداية التمصير، ومعضلة الجامعة السياسية، ونمو حركة التمصير، والكنيسة القبطية، وحركة الامتزاج، والمسلمين والأقباط، والفكر القومي، والثورة العرابية، وبدايات القرن العشرين، والشقاق، وأنصار التضامن، واغتيال بطرس غالي (الجد)، والمؤتمر القبطي، والمؤتمر المصري الإسلامي.

ثم يتحدث عن السياسة البريطانية والتفرقة الطائفية، ورد ثورة 1919م على هذه السياسة، وتعيين يوسف وهبة رئيساً للوزراء، وإحياء الذاتية القبطية، وينتقل إلى دستور 1923م، وقضية الملك والخلافة، والأزهر بين القصر والحركة الديمقراطية، ومعاهدة عام 1936م، ثم يعرج على الحركات السياسية والطائفية والمواطنة وقضية فلسطين، والحركة الشيوعية، ونظام يوليو 1952م، والموقف الفكري للكنيسة.

ويأتي كتابه «الدولة والكنيسة» (دار الشروق، القاهرة، 2011)، ليواجه التمرد الطائفي الذي أشعل وقوده الأنبا شنودة من خلال مدارس الأحد، والمواقف السياسية التي اتخذها وأدت إلى أن يعزله السادات في أحداث سبتمبر 1981م.

ويكشف هذا الكتاب تغوّل الكنيسة على السلطة والقانون، والتعامل مع رأس الدولة مباشرة دون الخضوع للقانون، أو بمعنى آخر دون الخضوع لمنهج الجماعة الوطنية الواحدة التي يحكمها دستور واحد وقانون واحد يتعامل على أساسه أبناء الوطن جميعاً.

لقد سمّيْتُ هذا الأمر بـ»التمرد الطائفي»، وأصدرتُ بعض الكتب التي تسمي الأشياء بأسمائها الصريحة، وكانت النتيجة أن جهة ما -لا أعرفها- ضغطت على الناشر فأوقف نشر كتبي لديه، وفوجئت أن سور الأزبكية يغصّ بما نشرتُه من كتب حول التمرد الطائفي فملأت الرفوف والفرشات، وهي جديدة بشوك المطبعة كما يقولون؛ مما يعني أن الناشر أرغم على التخلص منها تماماً، فوجدت طريقها إلى باعة الكتب المستعملة مع أنها لم تستعمل!

القاضي الفاضل

كان المستشار البشري في أسلوبه يستخدم الأسلوب الهادئ والمصطلحات غير المباشرة، لعل ذلك يعود إلى طبيعة القاضي وخبرته الطويلة في التعامل مع الواقع السياسي والثقافي، ولذلك أرجع التمرد الطائفي وإن لم يسمّه إلى وقائع مخالفة القانون الجماعي وتجاوزه إلى رئاسة الدولة مباشرة، وعبر عن تمرد الكنيسة وتقمصها دور الدولة الطائفية وفرض إرادتها ببناء الأديرة الكنائس دون مراعاة للقانون أو مخاطبة السلطات التنفيذية المعنية.

ومن حسن الحظ أن أ. مدحت ماهر أجرى معه حوارات مطولة غطت كثيراً من القضايا الشخصية والسياسية والفكرية والقانونية، ونشرتها «دار البشير» بالقاهرة في مجلد ضخم تحت عنوان «حوارات مع طارق البشري»، وظهرت إلى النور في 1441هـ/ 2020م، وفيها آراؤه وأفكاره مفصلة لمن أراد أن يستزيد.

لقد جمع البشري بين عقل القاضي، ولغة الباحث، وجرأة صاحب الحق، وهو ما يجعله إلى حد كبير شبيهاً بـ»القاضي الفاضل»، الرجل الثاني في دولة صلاح الدين الأيوبي المنتصر على الصليبيين، وإن لم يرحب به النظام القائم، لأنه كان رافضاً للفساد والاستبداد والضعف والهوان الذي تعيشه السلطة، فأبعده عما يستحق من مكان ومكانة.

لقد توفي البشري رحمه الله متأثراً بوباء «كورونا» صبيحة الجمعة 26 فبراير 2021م، بعد حياة حافلة بالفكر والنشاط والجهد، منحازاً للإسلام والأمة والوطن، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

من د. فؤاد بوعلي

عالم لسانيات مغربي