أعتقد جازما أن من يسمون «مناضلي الأمازيغية» هم أشخاص لا قضية لهم في حقيقة الأمر ،وإن كان يحلو لهم أن يصارعوا طواحين الهواء ، وأن يواصلوا «طول الوقت» مضغ الماء.

ذلك «يا أخي» أن الامازيغية ليست مذهبا فكريا ، ولا نظرية أيديولوجية ولا تتضمن برنامجا معينا ، ولا رؤية ، ولا تدعي لنفسها يوما أنها تفكك مشاكل ،أو تقدم حلولا.

هي -في مجمل الأمر- لغة متفرعة اللهجات ،ظل أهلها -طيلة الأحقاب والعصور إلى ساعة كتابة هذه السطور- بها يتحدثون ويتخاطبون ويتفاهمون وبها يصدحون في أغانيهم، ويحكون الحكايات والأساطير والأمثال، ويتلقونها في المهد، ويتذوقون بها فنونهم، ويعيشونها ثقافة موجودة، ويتفكرون في داخلها، ويحملونها هوية قائمة، وينغمسون في تفاصيلها كل لحظة، لا أحد يستطيع أن يجادل في هذا المعطى.

وكان من حسن حظ الامازيغ أن ثقافتهم بقيت موجودة بفضل سرعة دخولهم الإسلام، وانحيازهم إليه راضين، وانضوائهم تحت رايته ووقوع بلدانهم التي تم فتحها تحت سلطانه وإمرته ذلك هو ما أنجى هذه اللغة من الانقراض والاندثار، الذي تعرضت له لغات ولهجات شتى في الأوطان المحتلة، والتي تم فيها إحلال لغة المحتل محل لغة السكان الأصليين، وتعرضت الثقافات للإبادة والمحو والاضمحلال.

تشير كثير من التقارير العلمية إلى أن ثلاثة آلاف لغة ولهجة اندثرت وانقرضت بفعل الحروب الثقافية التي شنتها دول الاستعمار الغربي بالموازاة مع حروب النهب والقتل والاحتلال.

إن ما ينشئه الإسلام في النفوس من المناعة الذاتية ، وقوة الاعتزاز بالشخصية، والإحساس بالانتماء، والاستعصاء على الذوبان، والتوجس من الكفار ومكرهم وكيدهم هو ما جعل الأمازيغ يحافظون على تراثهم وثقافتهم ولغتهم في ظل الإسلام الذي يعرفون -يقينا- أنه لم يأت ليطمس وجودهم، أو يستأصل كيانهم، أو يبيد عرقا أو جنسا .بل جاء إلى الناس يعرض عليهم التوحيد والتحرير وينشر بينهم قيم العدل والإخاء والرحمة والمساواة.

لم تكن لدى الدين أدنى رغبة في تذويب الهوية، والتهام اللغات، وتفتيت ما هو قائم، بل كان منذ البدء -والقرآن المكي يتنزل- يشير إلى أن من آيات الله المبسوطة في الوجود للتأمل والاعتبار، أن خلق الخلق مختلفي الألوان والألسن والسمات والشيات .

قال تعالى: {ومن آيته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (سورة الروم).

فكان جليا أن الإسلام لا إشكال لديه أن تكون فارسيا أو كرديا أو أمازيغيا أو روميا ما دمت مسلما لله طائعا له .مقرا بوجوده ووحدانيته ، خاضعا لأمره ونهيه ساعيا في مرضاته وتقاه.

ذلك هو الميزان الوحيد في التقييم والأفضلية والسبق، ملغيا ما سواه من الاعتبارات التي يمكن أن تعيد العصبيات المنتنة، ودعوى الجاهلية الرعناء.

المهم أن الامازيغية كانت في وضع آمن، تتمتع بوجودها متآخية مع اللغة العربية –لغة القرآن-لكن في لحظة ما أثناء الاستعمار، أو في أعقابه بقليل ، نشأ وعي لدى فئة من المثقفين الامازيغ ، بضرورة الاهتمام بالثقافة الأمازيغية.

دفعهم إلى ذلك احتكاكهم بالثقافة الغربية، مضافا إليه تأثير واضح وتشجيع من بعض الباحثين الفرنسيين في اللهجات وأصول القبائل، فاتجه هؤلاء -فعلا- إلى البحث على ذلك المنوال، ونشطوا في هذا المجال خاصة مع تنامي الإحساس لديهم بأن ثقافتهم وتاريخهم مغموط ومقبور ومزدرى

كان على رأس هؤلاء باحث مهم ومتمكن وحصيف هو الأستاذ محمد شفيق الذي انكب -بدأب وصبر- على البحث في هذه الثقافة، حتى أصدر معجمه الشهير، وفتح فتوحا مبينة في هذا الحقل، وحاول أن يضع لبنة في التأريخ للامازيغ وثقافتهم بكتابه الهَام «لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الامازيغيين».

ثم مضى البحث على هذا المنهج اللا حب، مستَدا مشتَدا، تعمقا في الدلالات وغوصا في المعاجم، ومقارنات واستنباطات واستدراكات، في بحث علمي رصين ومحايد ورشيد

حمدنا فيه أنه سيغني هذه اللغة، ويثريها، ويسجل تاريخها، ويلم شعتها وتفاريقها، ويمنحها وجودا كتابيا، وحضورا ثقافيا -وإن شردت بسطوة العلمانيين أخيرا باختيارها حروف تيفناغ في الكتابة- تزداد به إحدى مكونات المغرب المتنوعة سعة وغنى وعمقا وثراء.

ورغم ذلك لا أخفيك -أيها القارئ الكريم- أنني في البدء توجست خيفة من تلك المساعي، وازدادت الريبة من حدة الحماس، وغلواء التعصب، الذي يشرح بأكثر مما هو حاصل، وتوقعت أن يكون وراء ذلك ما وراءه كما قال العرب قديما: «إن وراء الأكمة ما وراءها» خاصة وأن ما يدافعون عنه إلى حد التشنج هو موجود وقائم -كما بسطنا في أول المقال- بل ظلت الامازيغية موجودة قرونا قبل أن يوجدوا -لغة شفوية متوَارثة- لم تمت ولم تندثر، ولم تكن في مخاصمة ولا مشاكسة مع أحد، ولا تتزاحم في صدور أهلها مع غيرها ، بل تنسجم وتتواءم حتى وجدنا أضخم شاعر لدى الامازيغ -وهو سيدي حمو- هو فقيه أيضا .فلم تتفتت هويته، ولم يتشظ كيانه بهذين المكونين الئَريين. ووجدنا فقهاء الامازيغ اجتهدوا في «تمزيغ» كثير من كتب الدين ككتب الفقه والسيرة لتقريبها لعوام المسلمين، بل إن الامازيغ -عموما- كانت لهم أياد بيضاء في خدمة هذا الدين، وإثراء حضارته، وتعزيز بنيانه.

وقد صرح الأستاذ شفيق بذلك فقال: «ليس المقصود هنا الإحاطة بتاريخ البربر بعد دخولهم في الإسلام ، ولا الإحاطة بإسهاماتهم في بلورة الثقافة الإسلامية، لأن ثلاثة عشر قرنا من التفاني في خدمة الدين الحنيف فكريا وأدبيا لا يمكن أن تقتضب في سطور وفقرات.» ص :82

وهم رغم ذلك لا أحد يستطيع أن يزعم أنهم فقدوا خصوصتهم. أو ذابت هويتهم، بل إن الأستاذ المذكور لاحظ أنهم ألبسوا الحضارة الإسلامية سماتهم، وصبغوها بتفكيرهم، واتخذت بهم بعدا آخر، وطمعا مختلفا. فقال: «وأسهموا {أي الامازيغ} بقسط وافر في بلورة العلوم الإسلامية، لأنهم كانوا كثيري الحرص على صيانة العقيدة واستنباط ما في الأصول من قيم روحية ، وأحكام شرعية» ص :85

ثم راح يحلل أشكال تأثرهم في تلك الحضارة، وخصوصيتهم فيما أنتجوا داخله

كان الحال في ماضي الأمازيغية المشرق على ما رأيت، وكان البحث في ثقافتها بهذا الهدوء والعمق والإنصاف الذي تجلى لك فيما نقلته عن الأستاذ شفيق

لكن فجأة غلب هذا الشيخ الوقور عما هو فيه، وحيل بينه وبينما يبني، وتصدر المشهد الامازيغي شباب يجيدون الجدل الفارغ وإثارة الضجيج والعجيج بدون جدوى، وانقضوا على هذه القضية، وحولوا مسارها إلى متاهات العلمانية، والانسلاخ عن أصولها الأولى، ومحاولة بتر جذورها وأنساغها التي تتروى من صفاء العقيدة ومنبع الوحي، كي يزرعها في مواطن الجفاف، ومرابع الظلمات .نعم صدقت ظنوننا حين رأينا أن هؤلاء تلقفوا -أخيرا- القضية الامازيغية ، ونفخوا فيها ما طاب لهم النفخ، وسحبوها من ورائهم كرهينة، ليخوضوا بها أوحال مهمات قذرة، ويشنوا تحت غطائها حروبا مفتعلة، ويشحذوا بأسنانها، وتحت عباءتها سلاحا مسموما يوجهونه إلى دين الأمة وعقيدتها وتاريخها وحضارتها.

يقود هذه الجوقة النشاز أحمد عصيد الذي أعلن أكثر من مرة انحيازه المطلق إلى العلمانية، ووجه نقده للحدود في الإسلام ، وسخر من الشريعة ومن الخطباء والفقهاء، وتطاول على كثير من الأحكام الشرعية كالحجاب وغيره.

وقال في إحدى عوراته بالنص: «إن موضوع الحدود بجانب شرعيات الرق والعبودية وما ملكت أيمانكم، وقانون توزيع الغنيمة بعد الحرب ، ونظام القوامة الحريمي وكثير من الأحكام الأخرى تدخل ضمن «التراث الميت» الذي تفككت البنيات الاجتماعية الحاضنة له: وكذا دهنية الاشتغال به.

هكذا يطلق هذا العلماني الوقح عنانه اللغوي كي يعتدي على مضامين آيات محكمة في القرآن العظيم .بل إنه في الآونة الأخيرة لم تعد لديه مهمة إلا النبش عن المطاعن، وقطع السياقات عن اللواحق، والمكر اللغوي والخلط بين النص والتطبيق ،ليتسنى له ضرب محكمات الدين وتقويض هيبته، والتبشير بدينه العلماني الجديد.

لا أحب أن أسرد مخازي الرجل، وفضائحه الفكرية، وتورطه فما لا يحسن، وضآلة طرحه، وتهافت حجته هو أقل من ذكر من ذلك بكثير.

لكن يجب أن أقول إن بما يكتب أمثال هذا العلماني سقط القناع عن وجوههم، وظهروا على حقيقة أمرهم. وانكشف ما كانوا يخبئون. وأصبحت الامازيغية على أيديهم حصان طروادة في ديارنا. انفجرت بأفواج من الفئران ستثقب هذه السفينة، وتنتهي بالجميع إلى الغرق العظيم.. والعياذ بالله.