مرّت يوم 11 يوليو الجاري، وفي صمتٍ تام الذكرى الـ 115 لوفاة الإمام الجليل والمُصلح الكبير الشيخ محمد عبده (1 يناير 1849 – 11 يوليو 1905م)، الذي كان صاحب مذهب متفرد في الإصلاح والتجديد، لم يعتمد على الساسة والأمراء وأصحاب القرار، كما لم يعوّل أيضاً على معاصريه من المفكرين والفلاسفة، فكان هذا مسلكه الذي بينّه الأستاذ العقاد في كتابه “الإمام محمد عبده: عبقري الإصلاح والتعليم”: «الإصلاح بدونهم خير من انتظار الإصلاح معهم على غير جدوى»!..

 

وذلك على النقيض من أستاذه الأفغاني الذي اعتمد السياسة ومخالطة الحكام طريقا أساسياً من طرق الإصلاح!.

 

وقد كانت لي دراسة لم تتم، بدأتها منذ سنتين تقريباً، لإبراز هذا المشروع الإصلاحي الذي استهدف يقظة الأمة ونهضتها، من خلال الحديث عن رائده الأفغاني وتلاميذه، وفي الصدر منهم الإمام محمد عبده، والعلامة رشيد رضا..

 

وهذه أولى مقالات تلك الدراسة، أعيد نشرها إحياءً للمناسبة، وسوف أواصل نشر البقية –إذا استحسنها السادة القراء، رجاءً في إتْمَامها إن شاء الله..

 

الأفغاني وتلاميذه بين الحقيقة والافتراء!.

 

للعلامة محمود شاكر “أبو فهر” مكانة عالية في ريادة الأدب والثقافة والفكر في العصر الحديث وهي مكانة يستحقها بلا ريب، لذلك يحب الكثيرون الاستشهاد برأيه في القضايا المختلفة …

 

وقد تداولت بعض صفحات التواصل كلاماً منسوبا إليه يقول فيه:

«من أخطر عملاء الاستعمار في تاريخ أمة الإسلام: جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده»!.

وللأسف عندما تبحث على محرك البحث السريع (جوجل) عن رأي محمود شاكر في الأفغاني وتلميذه، تجد أن النتيجة المباشرة هي ذلك الكلام بالفعل!.

 

ولكن بالتعمق قليلاً، نعرف أن المصدر ليس كتابا لمحمود شاكر، بل هو كتاب “شخصيات عرفتها” للأستاذ حسين أحمد أمين الذي جاء بكلام ركيك غثّ معظمه سِـباب عن الأفغاني ومحمد عبده وآخرين، وضعه على لسان الأستاذ محمود شاكر رحمه الله!.

 

ولأن الكتاب نُشر بعد وفاة محمود شاكر بعشر سنين، فلمعرفة صحة (هذا الكلام) سوف أتعرض له من خلال ثلاثة محاور:

 

أولاً : معرفة من هو حسين أحمد أمين ناقل الرواية؟!.

 

ثانياً: إبراز رأي محمود شاكر في الأفغاني ومحمد عبده من خلال مقالاته الشخصية، وليس نقلاً عن أحد …

 

ثالثاً: رأي بعض الثقات في الزعيم الأفغاني والإمام محمد عبده…

 

أولا يجب معرفة أن «حسين أحمد أمين» الذي يصفه البعض بالمفكر الكبير، هو أحد غلاة العلمانيين الطاعنين في الشريعة والتراث الإسلامي، وأحد الباحثين في القمامة التاريخية لتشويه كل ما هو صالح في هذه الأمة!.

 

وحتي يكون الحديث موثق سوف أعرض في عجالة لبعض ما احتوي عليه الكتاب الكارثي الذي ألفه “حسين أحمد أمين” للطعن في الصحابة والشريعة والتراث الإسلامي بصفة عامة، والذي عنونه بعنوان “حول الدعوة إلي تطبيق الشريعة الإسلامية”!.

 

حيث اجتهد الرجل في أكثر من مائتي صفحة ليبين فساد الرأى الذي يدعو لتطبيق الشريعة، من خلال هدم نموذج السلف الصالح المتمثل في صحابة رسول الله والتابعين الأوائل، وأفرد لذلك فصلا كاملا بالكتاب تحت عنوان: حقيقة السلف الصالح!..

 

أتى فيه بالعجائب المنكرة مثل اتهام سعد بن أبي وقاص بأنه اختلس من بيت المال ولذلك عزله الخليفة عثمان عن ولاية الكوفة، واجتهد ليثبت ذلك فأبرز مرويات تقول أن سعد بن أبي وقاص (أحد العشرة المبشرين بالجنة) لا يحسن أن يصلي، وأيضا لا يصوم شهر رمضان!..[ص110]

 

لم يسلم منه أيضا الخليفة العادل «عمر بن عبد العزيز» الذي اتهمه بالجهل وقال إن سياسته الإدارية والمالية هي سبب خراب الدولة!..[ص 104]..

 

لن أطيل في هذا الغث ولكني سأذكركم بقول الحق سبحانه وتعالي? يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين? …

 

ونأتي للمحور الثاني؛ وهو رأي الأستاذ محمود شاكر في جمال الدين الأفغاني وتلميذه النجيب، من خلال واحدة من مقالاته والتي تحدث فيها عن حماية اللغة العربية بالقرآن أولاً ثم عن طريق الشعر ثانياً، وقد تطرق فيها للحديث عن العملاقين حافظ إبراهيم وأحمد شوقي والمحيط الذي أثّر فيهما فقال:

 

«ولم يلبثا أن سمعا صوت جمال الدين الأفغاني و هو يدور في أرجاء الدنيا ليوقظ المسلمين من غفواتهم ويحملهم علي فض الآصار (القيود) التي ضربت عليهم»!.

 

ويقول أيضا في نفس المقال:

 

«كان من البديهي أن ينبعث هذان الشاعران إلي باب من الشعر حقيق بأن يسقط عنهما عبء الجهاد العسير في السياسة أو في الثورة أو في الجماعات السرية التي تعمل لاستنقاذ الوطن الأصغر وهو مصر والسودان، وتحرير الوطن الأكبر وهو ديار العروبة والإسلام كما فعل رجال كالأفغاني وتلاميذه»….[جمهرة مقالات محمود شاكر ص884] …

 

أخيراً: بعض آراء الثقات في الأفغاني وتلاميذه …

 

رأي الشيخ المحدث العلامة أحمد شاكر:

 

«لقد قيّض الله للإسلام إمامًا من أئمته، وعلَمًا من أعلام الهدى، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده .. فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي كتابها، ودلَّها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره، وكان منارًا يُهتدى به في هذا السبيل، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير، وكان فيما أظن يرمي بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك، فينهجوا نهجه، ويسيروا على رسمه، ولكنهم لم يأبهوا به إلا قليلاً، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ، وبقي دهماؤهم على ما كانوا عليه!!.

 

ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام، وزادها وضوحًا وبيانًا، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة، ومضى لطَيَّته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه، فكأنه أُلهم روحَه، لم يكِلَّ ولم يضعف..»..[جمهرة مقالات أحمد شاكر ص175]

 

ورحم الله عملاق الدعوة الشيخ الجليل محمد الغزالي، حيث قال في كتابه الرائع «علل وأدوية»: الشيخ رشيد رضا صاحب المنار وأستاذه محمد عبده وزعيمه الأفغاني من أعمدة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث، ولكنهم ومن فوقهم ومن دونهم من المفكرين الإسلاميين ما رُزقوا العصمة ولا زُعمت لهم يوما، ومن من أئمتنا القدامي والمحدثين أصاب فلم يُخطئ ومضى فلم يعثر!.

 

#معركة_الوعي_أم_المعارك ..

من حمزة تكين

صحافي تركي، ماجستير في الشريعة الإسلامية