كل شيءٍ كان واحدا..  ليس هناك ما يفرقنا، لغة تجمعنا، وثقافة مشتركة، ودين واحد يوحدنا، عبر التاريخ؛ لم يكن أحد يتخيل أن تصير هذه الجغرافيا المتصلة منفصلة، فحينما احتَلت فرنسا الجزائر ارتجَّت لها حاضرة فاس رجًّا، كما أشار إليها تقرير للدبلوماسية الفرنسية صادر بطنجة يوم 13 يوليو 1830 جاء فيه: «إن سقوط الجزائر الذي تم الإعلان عنه في خبر الساعة الرابعة قد أثار البلبلة وسط المغاربة»؛ هذا الشعور الوحدوي هو التهديد الذي كان يخشى منه الاستعمار ويؤرقه.. ولا زال.

 

لم تكن هناك حينئذ مقولة «الحمد لله على نعمة الأمن والأمان» بينما بلد إسلامي آخر يهجم عليه المحتل متَفردا به، بل كانت علاقة الأمة الواحدة هي الرابطة التي تجمع المسلمين جسديا وروحيا، فعند احتلال الجزائر صدرت الفتاوى من العلماء في فاس بوجوب الجهاد ضد الفرنسيين المحتلين، وأرسلت فاس المؤازرات لمقاومة التدخل الصليبي ونصرةً للمسلمين حينذاك، وما موقعة إيسلي الشهيرة -التي انهزم فيها المغرب ضد فرنسا سنة 14 غشت 1844- إلا إحدى تلك المؤازرات.

 

لم يتوقف الشعور لدى الخاصة والعامة بوحدة شعوب المغرب الكبير عبر سنين المقاومة والنضال، فهذا الشعور الوحدوي هو الذي كان يبث فيهم الأمل ويمدهم بالشجاعة، فإذا استمرت هذه الوحدة النضالية الكفاحية في الجغرافيا المتصلة أرضا ودينا وثقافة ولغة ضد عدو غريب سيكون الانتصار عليه هو جَنْيُ الثمرة فقط لا محالة؛ فالأمر كان عندهم بديهي جدا وغير معقد؛ وهو أن احتلالَ الجزائر هو احتلالٌ للمغرب، فقد كان شعار المقاومان «عبد الكريم الخطابي» و«علال الفاسي» كما نُقل عنهما: من منفاهما في مصر “طالما أن الجزائر ليست حرة.. فإننا لن نستعرض في الرباط”

 

هذه الأخوة هي التي كان يخشاها الاستعمار ويسعى بمكره لتفريق صفوفها؛ وللأسف الشديد وجد المستعمر في غمرة ضعف المسلمين من يساعده في هذه الخطة الخبيثة لتقسيم الشعب الواحد إلى دويلات، وافتعال المشاكل وتحويل العداء من فرنسا وكرهها إلى العداوة البينية المفتعلة بين الشعب الكبير.

 

قد حققت الأنظمة -التي «مُنحت» «الاستقلال»- الطُّموحَ الفرنسيَّ في الاستفراد بكل دولة على حِدَة، الأمر الذي سهل للمحتل وبمعية المُنّصَّبين -على عروش الدويلات المُكوَّنة حديثا- القضاءَ على المقاومة ومحاصرتها واعتقال قادتها واغتيال من تمنَّع منهم، وإمعانا في الخيانة تم افتعال المشكلات الحدودية وحصر العداوة بين البلدين التي كان يقاوم فيها شعوبهما جنبا الى جنب ضد الاستعمار الفرنسي.

 

لقد اختُطفت المقاومة وحُورب المجاهدون المقاومون الذين لم يرضوا بأن يتقاسموا مع الغزاة تراب الوطن وهواءه، وحورب فِكرُهم واغتيلت شخصياتُهم ليسقط شعب المغرب الكبير في الأسر وينتهي بنا المآل إلى أقطار “وطنية” بحدود مغلقة وغايات ورايات متعدد، هذا المآل هو ما سعت له فرنسا ليتسنى لها السيطرة على ما يزيد عن 120 مليون نسمة ومساحة تفوق 6 ملايين كيلومتر مربع(5 دول رئيسية) لتكون نتيجة هذا التقسيم هو نهب خيرات هذه البلدان المتفرقة بيد لص واحد مستغلا تخاصم وتدابر أصحاب الكنز المسروق..

 

فلا يُتوقع أبدا أن يتحرر كلا البلدين الرئيسيين في شمال إفريقيا من الهيمنة الفرنسية الغربية ما داما متفرقَيْن ومتدابرَيْن متنازعَيْن فيما بينهما على ترسيم حدود ليسا هما من قررها بالأصل، يجب على الحركات الشعبية والساسة الأحرار في كلا البلدين أن تكون مطالباتهم وأدبياتهم ونضالهم هو العودة إلى ما كان عليه أجدادُهم من الوحدة والاتصال الجغرافي والنضالي والسياسي..

 

فهل بعد هذا التِّيه -الذي استمر لأزيد من قرن- نعي ما كان بديهيا لدى المقاومين حينها؛ أنه لا طالما أن الجزائر ليست حرة، فيقينا المغرب ليست كذلك أيضا؟!

من سري القدوة

رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية