دور العلماء في فتوحات صلاح الدين:

ما يقرب من تسعين عاما وأربع دول من قلب العالم الإسلامي محتلة من الصليبيين الذين حلوا من بلادهم واخترقوا صرح الموحدين وفسطاطهم يعج بالعلماء من مختلف المجالات والفقهاء والأدباء والحرفيين والمنظرين والفرسان فكان السؤال الأبرز كيف تم الاختراق؟ في غزوة أحد هزم المسلمون عندما خالفوا أمر رسول الله، فما هي مخالافاتنا التي بها ومنها اخترقنا المرض؟

“من لا يفعله جهد العلماء يفعله جهد البلاء”

 

هذه حقيقة دامغة يتلمسها كل مسلم مراقب لحاله مع الله وقد تعوذ رسولنا من جهد البلاء، وقد أفطن صلاح الدين لهذه الحقيقة والتي منها تكون نقطة البداية فأفسح المجال للعلماء الربانيين المفكرين ليعبدوا له الطريق مع جملة من أسند إليهم هذه المهمة بل إنه أولاهم بها أكثر من غيرهم، فهم الترياق الذي يمحو بؤر المرض الذي أصاب النفوس ليجلو القلوب فتستقبل الترياق الذي يشد عضدهم وتنهض الهمم من سباتها.

 

ومنذ أن أشار إليهم بالبدء وهم لا يألون جهدا في استنهاض الهمم حتى والأمة في قمة نشوتها برفع رايات النصر فكانت أول خطبة بالمسجد الأقصى مقسمة لنقاط هامة بحديث مسفيض للمجاهدين بصفة خاصة وللأمة بعامة فأكد الخطيب على الآية 10 بسورة الأنفال: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}

 

وأكد الخطيب على ديمومة الاستغفار من الذنوب ومواصلة الجهاد في سبيل الله، الاحتفال بالنصر العظيم كان بالمسجد وجلس النجم الأشهب الذي أذل رقاب العدو في تواضع وإنصات ليحذو جنده حذوه.

 

فشل صلاح الدين في فتح مدينة صور:

 

تحامل المؤرخ ابن الأثير على صلاح الدين واتهمه بأنه تساهل مع الصليبيين في المدن المفتوحة وسمح لهم بالانضمام إلى ذويهم وبأموالهم في مدينة صور مع وصول الإمدادات من أوروبا، وحصار جيش المسلمين للمدينة والذين شبهوها بسفينة حيث أنها في قلب البحر المتوسط لا تتصل بالبر إلا من جانب واحد ومع حلول الشتاء وتفشي المرض في جيش المسلمين باء الحصار بالفشل فلجأ صلاح الدين إلى الحل الدبلوماسي فطلب من كونراد حاكمها الصليبي التسليم خاصة وان والده وليم مأسور لدى جيش المسلمين والذي ساومه به إذ هدده بأنه سيقتله إن لم يسلم المدينة ولكنه رد عليه بأنه أهون عليه أن يموت هو ووالده ولا يسلم المدينة لصلاح الدين.

 

والواقع أن إعطاء صلاح الدين الصليبين الأمان مقابل تسليم الحصون تلو الحصون في خلال أشهر قليلة قد مكن المسلمين من فتح ممالك بيت المقدس (سوريا وفلسطين والأردن ولبنان ماعدا صور وطرابلس) كما أن صلاح الدين بتسامحه مع الصليبيين يؤمن بتعايش الدينين معا، فقط كان يقضي على قوة الصليبيين السياسية اتباعا للأمر القرآني بقتال أئمة الكفر وليس العوام الراغبين في العيش بسلام كما في سورة التوبة : {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12)}

 

سلوك صلاح الدين مع الصليبيين جعل تشرشل يقول عنه “إنه من أعظم ملوك الدنيا”

 

أما الكاتب الانجليزي ريدر هاجرد فقال عنه “أعظم رجل على وجه الأرض”

 

كنا في المقال السابق أشرنا لسلوك صلاح الدين مع ستيفاني أم هنفري التي طلبت منه إطلاق سراح ابنها المأسور فقال لها أنه قيد الأسر حتى تسليم حصني الكرك والشوبك ولما طال حصار المدينتين دون تسليم أطلق سراح ابنها قبل تحرير المدينتين اللتان استمر حصارهما عاما كاملا وهم صامدون حتى انقطع عنهم الإمداد وجاعوا وأكلوا دوابهم حتى يئسوا واستسلموا.

 

استمر صلاح الدين يقود جيشه يفتح الحصون تلو الحصون والكثير منها كانت بيد الداوية والاسبتارية ما يعني أن كل من يرافق الجيش هو جيش.

 

” إنا لم نخلق للمقام بدمشق وإنما خلقنا للعبادة والجهاد”

 

دخل صلاح الدين دمشق بعد عودته من إحدى غزواته فاحتفل المسلمون بقدومه أيما احتفال وقد وجد الصفي بن القابض وكيل الخزانة قد بنى دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي فغضب عليه وعزله من وظيفته وقال عبارته الشهيرة ” إنا لم نخلق للمقام بدمشق وإنما خلقنا للعبادة والجهاد” وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له.

 

في زماننا الآني والذي تتصاعد فيه وتيرة تنفيذ صفقة القرن رغما عنا بينما نحن نترمض في التيه الزائف ذلك أن الحقيقة ماثلة ومعروفة فصلاح الدين الذي تسلم مقاليد أمة مهلهلة من انحراف العقيدة وتمكن العبيديين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وقد نشروا مختلف أنواع البدع والخرافات مما يجعل القياس الإيماني للبعض بأنهم خارج الدين والملة ونحن الآن منتشر فينا مختلف أنواع البدع ويكاد يكون الظرف التاريخي الذي نحياه مماثلا للظرف التاريخي الذي تواجد فيه صلاح الدين فبدأ الطريق بإصلاح العقيدة ذلك أن راية الإسلام انضوى تحتها في جيش صلاح الدين المصريون والعرب والترك والكرد والفرس والهنود والزنوج، فاختلاف لون الجلد واللسان لم يمنع الاتفاق تحت راية الإسلام، والإسلام فقط الذي جعل جمال حمدان لأن يقول متحديا الذين كانوا يتربصون به والذين قتلوه غيلة:

 

“لم يكن عرب الجزيرة أمة ولا كان لهم تاريخ، حتى أمة بلا تاريخ لم يكونوا، بل مجرد حفنة أو شرذمة من القبائل المتحاربة المتعاركة المتطاحنة المتعددة اللهجات وأحيانا اللغات، وهي إن لم تكن تقع خارج الجزيرة فإن لها تاريخ فلكلوري على أحسن تقدير.

 

ويقول لقد خرج العرب من الصحراء ودخلوا التاريخ بفضل الإسلام وما كان لهم هذا ولا ذاك بدونه، لم يكن الإسلام بالنسبة للعرب رسالة من السماء فقط ولكن نجدة من السماء.

 

ويقول جاء الإسلام ليبقى.

 

ويقول سيعود الإسلام ليقود من جديد.

 

ويقول كانت راية الإسلام هي راية نور الدين وصلاح الدين في معاركهم وانضوت تحتها الشعوب الإسلامية من عرب وترك وفرس وغيرهم ليحققوا الانتصارات الرائعة.

 

إنه جمال حمدان (الأستاذ) والذي من قبره يصفع إعلام الرايات الحمر الذي ينعتنا بالإرهاب وكما تنبأ بقيادة الإسلام للعالم من جديد هو نفسه من تنبأ بتفكك الاتحاد السوفيتي قبل تفككه وهو من تنبأ بتفكك الولايات المتحدة الأمريكية.

وللحديث بقية إن شاء الله

من د. إبراهيم حمّامي

كاتب وباحث سياسي