قد نُقل عن بعض العلماء بعض المقولات في الإمام أبي حنيفة، وكان لهم شيءٌ من النقد الشديد والذم له؛ ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل!

 

لكن المتأكد قطعاً أنّ الإمام أحمد كانت رؤيته للإمام أبي حنيفة ذات تقدير وإجلال.

 

فهو الذي قال عن الإمام أبي حنيفة: (هو من العلم، والورع، والزهد، وإيثار الدار الآخرة بمحلٌ لا يدركه فيه أحد).

بل بيّن عدم صحّة نسبة بعض الأقوال التي نُسبت إلى الإمام أبي حنيفة؛ ومن ذلك أنّه قال: ” لم يصح عندنا أن أبا حنيفة قال القرآن مخلوق “.

 

بل إنّ ابنه عبدالله الذي نقل في كتابه (السنّة) جُلّ الروايات عن الإمام أبي حنيفة المادحة والناقدة؛ كان أول أثر رواه في هذا الباب: ما سمعه من أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: “من حسن علم الرجل، أن ينظر في رأي أبي حنيفة”.

 

ولهذا عُني الإمام أحمد بن حنبل بآراء الحنفيّة؛ وقد نقل عنه تلميذه الخلال قوله:”كان أحمد بن حنبل قد كَتَب كُتُب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها “.

وقال الإمام ابن رجب: كان الإمام أحمد بن حنبل قد كَتب أولًا كُتبَ أصحابِ أبي حنيفةَ وفهمها، وفهم مآخذَهم في الفقه ومداركهم !

 

والإمام أحمد بن حنبل تحدث بنفسه أنّه أفادَ من رأي الحنفية كثيراً

 

فقد قال: أول ما كتبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف.

 

وسئل الإمام أحمد: من أين لك هذه المسائل الدقاق؟

 

قال: من كتب محمد بن الحسن.

 

لهذا فلا يأتينّ أحدٌ بنقولاتٍ إمّا بعضها لا يصح؛ أو قديمة؛ فيقول لقد قال الإمام كذا في الإمام أبي حنيفة كذا؛ فالإمام أحمد بنفسه صرّح بمدحه وإجلاله لأبي حنيفة؛ وعلماء المذهب أنفسهم أكّدوا ذلك ولهذا قال العلاّمة الطوفي ناقلاً عن أبي الورد من أصحابنا الحنابلة قوله: ” آخر ما صح عن الإمام أحمد رضي الله عنه إحسان القول فيه -يعني أبا حنيفة-، والثناء عليه”.

 

وقد قال إسماعيل بن سالم البغدادي: “ضُرب أبو حنيفة على الدخول في القضاء؛ فلم يقبل القضاء. قال: وكان أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى، وترّحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضُرِبَ أحمد”.

 

بقي أن أقول قد نقرأ مقولاتٍ من بعض العلماء في ذم أبي حنيفة؛ ومنهم الإمام الأوزاعي ؛ ولكن هذا الذم سببه أن الأوزاعي بلغه كلامٌ سيء عن أبي حنيفة فيقول بذم ما نُقل له عنه؛ فحين تثبّت وتأكدّ الإمام ابن المبارك بعكسه قال بخلافه ورجع الأوزاعي كذلك عن قوله

 

يوضّح ذلك هذا الموقف المهم الذي زبره وسطّره الخطيب البغدادي في تاريخه نقلاً عن عبد الله ابن المبارك أنّه قال: “قدمت الشام على الأوزاعي فرأيته ببيروت فقال لي : ياخرساني من هذا المبتدع الذي خرج من الكوفة يكنى أبا حنيفة ؟ ” فرجعت إلى بيتي فأقبلت على كتب ابي حنيفة فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل وبقيت في ذلك ثلاثة أيام فجئت يوم الثالث وهو – أي الأوزاعي – مؤذن مسجدهم وإمامهم و الكتاب في يدي فقال :” أي شيء هذا الكتاب ؟ ” فناولته فنظر في مسألة منها وقعت عليه : قال النعمان. فما زال قائما بعد ما أذن حتى قرأ حدرا من الكتاب ثم وضع الكتاب في كمه ثم اقام وصلى ثم اخرج الكتاب حتى عليها.

 

فقال لي: “ياخرساني من النعمان بن ثابت هذا ؟ ” قلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه.

 

ثم لما اجتمع الأوزاعي بأبي حنيفة بمكة جاراه في تلك المسائل فكشفها له بأكثر مما كتبها ابن المبارك عنه. فلما افترقا قال الأوزاعي لابن المبارك: غبطت الرجل بكثرة علمه ووفور عقله وأستغفر الله تعالى لقد كنت في غلط ظاهر الزم الرجل فإنه بخلاف ما بلغني عنه “.