الحرب المشروعة

خلصنا في المرة الماضية ونحن نتدبر آيات الحرب والقتال في القرآن الكريم إلى جملة من المعاني، نتذكرها سريعا قبل أن ندلف إلى موضوعنا اليوم:

 

– القاعدة الأساس في القرآن الكريم أن الناس قد خلقهم الله مختلفين ولو شاء لجعلهم كلهم مؤمنين.

 

– أن الله أقر الحرية الدينية وحرّم كل ما يخالف ذلك وبخاصة إجبار الناس على تغيير معتقداتهم (لا إكراه في الدين).

 

– الأصل في تعامل المسلمين مع غيرهم من أصحاب الأديان المختلفة أن يكون التعامل بالعدل والإحسان ولين القول والحذر من التعرض لعقائدهم ومقدساتهم وآلهتهم بكلمة نابية حتى لا يسبوا الله عز وجل.

 

– أن مهمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، تحديدا وقصرا هي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

– لا يريد القرآن من المسلمين اتباع سياسة الهيمنة وبسط النفوذ على الآخرين لأن الدار الآخرة قد جعلها الله للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.

 

هذه هي المبادئ التي استخلصناها من قبل، والآن لتتعرف على الحرب المشروعة في المنظور القرآني.. ما هي؟ ومتى تُفرض؟ ولماذا تكون مشروعة؟

 

الحرب المشروعة هي بكل وضوح، وقولا واحدا، الحرب الدفاعية، وما عداها يمكن أن يكون كل شيء إلا أن تكون حربا شرعية بالمفهوم والمصطلح القرآني.

 

وكل آيات القتال والحرب الواردة في القرآن الكريم تنص على ذلك ولا تشذ عنه:

 

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190]

 

فهذه الآية تنص على أن يقاتل المسلمون من يقاتلونهم. وهذا يعني أن الذين لا يقاتلونهم لا يجوز قتالهم. مُحرّم شن الحرب عليهم تحت أي ذريعة من الذرائع؛ لا نشر دين، ولا فرض جزية، ولا تخيير بين إسلام أو جزية أو حرب، ولا “فتوحات” تستلزم قتالا، ولا غير ذلك بالمرة. فقط قتال من يقاتلون. وهنا يكون القتال لكف بأس العدو، حيث يُحذِّرُ القرآن من الاعتداء ومن مجاوزة الحد، لأن الله لا يحب المعتدين. (فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 192]. أي أن القتال يتوقف بانتهاء قتال العدو للمسلمين. بجنوحهم إلى السلم أو الهدنة. لأنه لا حرب إلى الأبد، ولا قتال إلى ما لا نهاية.

 

وفي الآية التي تليها مباشرة استطراد في ذات المعنى:

 

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 191]

 

وقد نزلت الآية في قتال المشركين الذين جاءوا لقتال المسلمين في مدينتهم بعد أن تركوا لهم مكة وهاجروا نجاة بدينهم وجلدهم.. فتقول لهم الآية بوضوح: إنه قد فُرض عليكم القتال وهو كره لكم. فلابد أن تقاتلوا دفاعا عن دينكم وعرضكم وأموالكم ودياركم وبلدتكم الجديدة، ودفاعا عن أولادكم ونسائكم المستضعفين. فعليكم قتال من يقاتلونكم. اقتلوهم في المكان والزمان الذي وجدتموهم فيه، وأخرجوهم منه كما أخرجوكم من قبل وحاولوا فتنتكم عن دينكم، ألا تعلمون أيها المسلمون أن الفتنة عن الدين أشد من القتال والقتل الذي أنتم مدعوون إلى خوضه.

 

فلتقاتلوا الذين جاءوا لقتالكم إذن لكي لا تحدث الفتنة عن الدين المشار إليها، ولكي يكون دينكم لله، فإن انتهى المقاتلون عن قتالكم فانتهوا أنتم أيضا ولا تعتدوا عليهم بعد ذلك لأن الله لا يحب الظالمين:

 

(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 193]

 

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) [النساء: 90].

 

فالقتال مشروع للدفاع عن النفس، ومحدد بقتال من يبدأ المسلمين في بلدهم بقتال، أما غير ذلك من أمم الأرض وشعوبها الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يحاولوا إثنائهم عن دينهم فالأصل أن تكون المعاملات مع هؤلاء طبيعية، بل أن تكون موشاة بالبر والقسط والعدل والإنصاف لأن الله يحب المنصفين:

 

(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].

(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:9].

 

فالحرب المشروعة في القرآن إذن هي الحرب التي يخوضوها المسلمون للدفاع عن أنفسهم وبلدانهم ودينهم ومقدساتهم، كشأن أي أمة في العالم لها دين وأرض ومقدسات يتم الاعتداء عليها.

 

هي حرب تكون بعد أن ينقض المقاتلون عهودهم ومواثيقهم والاتفاقيات السلمية الموقعة معهم، ويهموا بالقتال:

 

(أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [التوبة: 13].

 

ولأن النفس البشرية لا تريد الدخول في حروب وما يتبعها من دماء وقتل ويتم وترمل وإصابات وعاهات، فإنها بحاجة إلى دافع يحثها على خوص هذه الحرب كما تفعل الآن وسائل الدعاية وأقسام الشؤون المعنوية في الجيوش، التي تنشط في تذكير الجنود بشرعية حربهم وقانونيتها.. فكذلك فعلت آيات القرآن الكريم وهي تحض المسلمين على القتال.. فبعد أن قالت لهم إنهم يقاتلون من يقاتلونهم والذين جاءوا لإخراجهم من ديارهم، قالت لهم أيضا إن الله أذن للذين ظلموا أن يقاتلوا لدرء الظلم الواقع عليهم وعلى أولادهم ونسائهم المستضعفين:

 

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) [الحج: 39، 40]

 

(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) [النساء: 75].

 

أما قول الله عز وجل:

 

(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29]

 

فلها سياقها وخصوصيتها وهي محددة بزمانها ومكانها إبان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ لا يعقل أن يكون ثمة تناقض في القرآن الكريم، وبعد أن يقول الله (لا إكراه في الدين) يعود ويقول قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فمن الطبيعي يكون في قارات العالم المعمور أناس لا يؤمنون بالله الذي يؤمن به المسلمون ولا بعقيدة اليوم الآخر التي يؤمن بها المسلمون.. فهل المسلمون مطالبون شرعا أن يقاتلوا هؤلاء جميعا.. أن يحملوا مدافعهم ويسيروا دباباتهم ليدكوا بها الهند والصين واليابان شرقا، وروسيا وأوروبا شمالا، وأمريكا غربا وأفريقيا جنوبا.. هل يعقل هذا؟

 

بالطبع لا يعقل، وهو كما قلنا يتناقض مع المبدأ القرآن الواضح (لا إكراه في الدين) (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (ولا يزالون مختلفين) (ولو شاء ربكم لآمن من في الأرض كلهم جميعا).

 

إذن فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في واقعة محددة كما قلنا زمانا ومكانا، لا تتعداها لغيرها.. وهي خاصة بالحرب التي كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يخوضها وبعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى يقفون في صف العدو المقاتل.. نقول ونشدد على كلمة بعض، لأن هؤلاء هم المعنيون، وغيرهم يجب أن تتم معاملتهم بالبر والقسط وعدم التعرض لهم ولا لمعتقداتهم بأذى.

 

فـ “قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” [التوبة: 29] ليست على إطلاقها ولا حكمها حكما ممتدا لكل من لا يؤمن بالله من أهل الكتاب، وفي هذا جاء موضوع الجزية المفروضة على هذا الصنف المقاتل فقط من أهل الكتاب، وفي ذاك السياق مكانا وزمانا لا يتعداه.

 

فالخلاصة:

 

– إن الحرب المشروعة وفق آيات القرآن الكريم هي فقط الحرب الدفاعية.

 

– القرآن لا يعرف شيئا اسمه الحرب الهجومية.

 

– ولم يحث أتباعه على شن الحرب على الآخرين بذريعة نشر الدين أو بسط النفوذ أو توسيع الهيمنة الذي جاء بعد ذلك تحت مسميات عديدة أشهرها “الفتوحات”.

 

– ولم يقل القرآن للمسلمين أن يشنوا الحروب على الأمم والشعوب غير المسلمة لأن القرآن أقر ابتداء الحرية الدينية (لا إكراه في الدين)، ومن باب أولى لم يقل لهم خيِّروا هؤلاء الذين يعيشون في سلام مقتنعين بدينهم بين أن يتركوا هذا الدين ويدخلوا في دينكم، أو أن يدفعوا الجزية، أو أن يقاتلوا الجيش المسلم رغما عنهم.. فالقرآن لم يقل شيئا من ذلك.. وإنما قال “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم” ، “ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم” ، “فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا” .. كما مرَّ بنا من آيات.

من د. حسين شحاتة

خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية