جاءت استقالة رئيس وزراء لبنان سعد الحريري لتكشف كثيرا من كواليس الصراع في تلك المنطقة الملتهبة من العالم، والتي توشك على الانفجار جرّاء تكثيف معادلات الصراع وتشابك محاوره وبلوغه درجة الغليان في كثير من نقاط إلتقاءه وتماسه.

العالم العربي وعلاقاته وجواره الإقليمي في تركيا وإيران وأثيوبيا على شفا مرحلة تحولات كبرى أشبه ما تكون بالمرحلة الأولى التي واكبت معاهدةسايكس بيكو،والتي مر عليها في هذه الأيام مائة عام، ويبدو أن الذين يمسكون بزمام الخرائط ويرسمون معالمها يريدون أن يجروا عليها بعض التعديلات الجوهرية سواء في إعادة تقسيم البلدان أو في دمج بعض المناطق أو في تغيير عروش وممالك بما يحدد معالم وحدود العلاقات بين المذاهب والعرقيات والطوائف في إطار مفاهيم الأغلبية والأقلية العددية للشعوب والبلدان وتقاطعاتها وما يستتبعه ذلك من إعادة رسم الحدود والتخوم.

اللحظة الراهنة لحظة تاريخية بامتياز، لحظة تتكاثف فيها التحالفات والصراعات، وتتشابك فيها المصالح والطموحات، وتتماس فيها دوائر النفوذ والمطامع، وربما كانت النتيجة المنطقية هي تغيير القواعد والمعادلات التي تحكم نمط التحالف والصراع،وما يستتبعه ذلك من إعادة رسم شبكات العلاقات.

وما استقالة سعد الحريري إلا تعبيرا عن أحد أهم تجليات الحرب بالوكالة التي تجري في تلك المنقطة الملتهبة من العالم، وهي ليست حربا بالوكالة على المستوى الإقليمي وحده، بل أيضا على المستوى الدولي، فالصراع الروسي الأمريكي في أظهر مناطق تجلياته يأخذ أشكالا مختلفة حسب أطراف الصراع وموضوعه وشبكة علاقاته والأبعاد الاستراتيجية التي يمثلها سواء موضوع الصراع أو أطرافه، وما يستتبعه ذلك من نتائج وتداعيات على الأرض.

لبنان وعلى مدار تاريخه القريب والمنظور ومنذ تشكل معالم دولته بأعراقها ومذاهبها وطوائفهاوهو أحد أهم مناطق تجليات الحرب بالوكالة،فتم توظيف أجوائها المفتوحة والحريات العامة التي تنعم بها بأثر من عملية التوازن العميقة بين مكونات شعبهلتكون ساحة صراع تلتقي فيها كل أجهزة مخابرات ليس العالم العربي وحده بل مخابرات العالم كله حتى كانت الحرب الأهلية التي كانت في جزء من تداعياتها أحد أهم تجليات الحرب بالوكالة بين القوى الإقليمية وامتداداتها المذهبية والدينيةالتي اتخذت من  الأرض اللبنانية ساحة صراع.

انتهت الحرب الأهلية باتفاق الطائف الذي مثل الأساس القانوني للتقسيم العرقي والمذهبي والطائفي بين الرئاسات الثلاث (الدولة والبرلمان والحكومة) وبما تمثل من امتدادات مذهبية وطائفية من ناحية وما تمثل من ظهير إقليمي ودولي من ناحية أخرى، فظل لبنان حتى اغتيال رفيق الحريري حديقة خلفية وساحة نفوذ لنظام الأسد، مع ما يمثله الحريري وتياره من امتداد عربي سني في الأفق الأعم، وسعودي في المنظور الأدنى، وبعد اغتيال الحريري أخرج نظام الأسد بالقوة من لبنان وتم فك القبضة الأمنية السورية على الساحة اللبنانية، وظل حزب الله امتداد طبيعي ومذهبي للنفوذ الإيراني ليظل الصراع المذهبي والعرقي والطائفي أحد أهم محاور الصراع ومرتكزاته، وبعد الثورة الثورية وانهيار نظام الأسد تحولت دمشق إلى أهم مظاهر تجليات التحكم الإيراني،ثم كان سقوط صنعاء في براثن النفوذ الإيرانيعقب الانقلاب الحوثي بالتحالف مع المخلوع صالح هي رابع العواصم العربية التي تسقط في الميزان الاستراتيجي الإيراني مما حدا بأحد أركان النظام هناكأن يصرح بأن إيران تتحكم بأربع عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء).

ما ظهر من الصراع هو رأس جبل الجليد العائم أما امتداداته وجذوره فما زالت تخفيها قوابل الأيام، ليست الأيام البعيدة بل القريبة والقريبة جدا.

من وائل أباظة

كاتب ومدون