تردي النخب المتنفذة.. 
دلالاته وعلله وعلاجه لاستعادة الدور الكوني

حال الأمة الإسلامية التي تجعلها تكاد تكون مستثناة من سنن التاريخ بل وتعيش دور المنفعل بمجراه حال لا يمكن ألا تكون محيرة لأي إنسان راقب ما يجري في دار الإسلام عامة و في بلاد العرب من الماء إلى الماء خاصة. وهي حال جديرة بالعلاج من وجهين أعني من وجه عموم المسألة وعموم الحيرة عند كل من يتفكر طلبا لتفسير يقبله العقل:

1-فما علة تردي النخب العربية ذات النفوذ معرفيا وخلقيا بصنفيها الأقصيين وكل الطيف بينهما أعني أدعياء التحديث وأدعياء التاصيل وما بينهما من نخب كلها تابعة للاستبداد والفساد المسيطرين.

2-وما علة عموم الحيرة لعدم فهمها والعجز دون علاجها رغم معرفة الأعراض المشتركة التي تشملهم أعني السلوك الفرعوني في الداخل والعبودية المطلقة للخارج خدمة لأعداء الأمة.
والقصد بـالنخب “ذات النفوذ” النخب المتحكمة في شروط قيام الإنسان كيانه العضوي (وهي شروط اقتصادية اجتماعية) وكيانه الروحي (ويه شروط علمية وقيمية) ولنقل اصطلاحا المتحكمة في الاقتصاد والثقافة سويين أو غير سويين رجلين تقوم عليهما حياة الجماعة وسياستها في جميع المجتمعات السوية. وهذا التعريف يفيد أمرين:

1-ليست كل النخب هي المقصودة في هذه المحاولة

2-فالأمر يقتصر على النخب ذات السلطان على الأمرين

إما مفصولين أو بوصفهما مقومي الفعل الذي يعمل بهما معها والذي هو السياسة في تعينيها الفاعل بالرمز والفاعل بالشيء أي بعدي فعلها:

1-التربية والثقافة في الفعل بالرموز خاصة

2-والحكم والاقتصا في الفعل بالأشياء الفعلية.

فإذا فصلنا التعريف تبين أن المقصود بالنخب المتنفذة أربعة أصناف:

1-نخبة التربية المسيطرة

2-نخبة الثقافة المسيطرة

3-النخبة الاقتصاد المسيطرة

4-النخبة السياسة المسيطرة.

وهذه تجمع بين الأداتين فضلا عمن يتبعها من النخب الثلاثة السابقة أعني شوكة السياسة حكما ومعارضة وخدعة الإعلام. فتكون الظاهرة التي يتعلق بها البحث هي تردي هذه النخب المسيطرة على :

1-التربية

2-والثقافة

3-والاقتصاد

 

4-والسياسة الحاكمة

5-والسياسة المعارضة

6-وإعلام السياسة الحاكمة

7-وإعلام السياسة المعارضة.

ولما كانت الأربعة الاخيرة تضاعف الثلاثة الأولى صار التردي 10 حالات فكرية وخلقية. وتلك هي علة الحيرة. فحيثما التفت لن تجد من حولك إلا التردي والمستوى المنحط الذي يحعلك تشعر وأنك في عالم مجانين يتهاوشون حول كل شيء ولا شيء ما يجعل حال العرب اليوم أشبه بما يجري في الأسواق التي يتلقي فيها السوقة للتسوق وكأنهم قوم بابل كل يغني بما لا يقبه الآخر فلا تسمع إلا ضجيجا.

بحيث إن المتسوقين من السوقة في سوق الروبافاكيا المسيطرة على بضائعهم يمكن أن يقتتلوا على التوافه مايلهيم عن أمهات الشأن الأنساني لكأنهم في غيبوبة عما يجري في العالم الذي هم وقوده تتلاعب بهم رياح الطامعين في ما وروثه فكانوا أعق الوارثين بسبب نكوصهم إلى ما قبل ما جعلهم موجودين.

والمحير أكثر ليس وجود الظاهرة حاليا بل وجودها وعلاجها بصورة صريحة على الأقل منذ أن ألف ابن خلدون المقدمة. والمحير بصورة موجبة هو أنه ردها إلى فساد التربية والحكم اللذين حملهما مسؤولية “فساد معاني الإنسانية” في أي جماعة سيطر على تربيتها وحكمها العنف المادي والرمزي في الحالتين.

وقد اعتبر العنفين المادي والرمزي في التربية والحكم مقسدين لمعاني الإنسانية من خلال الوصل بينهما وبين تعريفه للإنسان من حيث هو إنسان تعريفا فريدا يجمع بين الواحد في الرؤيتين الفلسفية والدينية من حيث المصطلح ولكن ليس من حيث دوره في التعريف الفلسفي بل من من حيث دوره في الديني.

فهو يعرف الإنسان قائلا “الإنسان رئيس بطبعه (مصطلح فلسفي) بمقتضـى الاستخلاف الذي خلق له (مصطلح ديني)”. والمصطلح الفلسفي المستعمل هنا ليس هو ما به يعرف الفلاسفة الإنسان لأنهم يعرفونه بكونه حيوانا عاقلا وليس بكونه رئيسا. ما يعني أن “رئيسا” بالطبع ذات دلالة دينية وليست فلسفية.

ولذلك كانت “بمقتضى” تفيد أن الرئاسة بالطبع هي عين الاستخلاف الذي خلق له أو هي ما يترتب عليه فتكون مفيدة التكريم الذي فطر عليه لأن استخلاف الإنسان في الارض يعني أنه عين “رئيسا” لكل ما في الدنيا ولو بوصفه خليفة دون أن يصبح ربا. ما يعني أن الإشكال كله يكمن في هذه العلاقة.

فإذا عدت الآن إلى الحالات العشر التي وصفنا من التردي لدى النخب المتنفذة تجدها لا تعترف بمنزلة رئاسة الإنسان كإنسان من حيث هو خليفة لأنها تعتبر نفسها أربابا وغيرها ممن يخضعونهم لسلطانهم عبيدا لهم وليسوا عبيد للرب. إذن هو يترببون بنفي المساواة مع الآخرين ونفي علاقة الاستخلاف.

وليست أشك لحظة واحدة من أن هؤلاء المتنفذين جميعهم سيسخرون من هذا التوصيف لأني لا أشك جزءا من اللحظة أنهم “صم بكم عمي فهم لا يعقلون”. ولهذه العلة أقدمت على هذه المحاولة لابين ما يغفلون عنه فيجعلهم يقعون في هذه الحماقات التي جعلت شعوبنا أضحوكة العالم باستثنائها من منطق العصر ليس من شروره بل من أخياره لان شرورنا زادت عن شروره وغابت لدينا أخياره.

ومرة أخرى فالعلة التي جعلتهم بهذا الحمق سبقني إليها ابن خلدون. ففي فصول كثيرة من المقدمة تكلم على ظاهرة عجيبة سماها “حب التأله”واعتبرها موجودة عند نوعي النخب صاحب السلطان السياسي وصاحبة السلطان الـ”العلمي” بكل معاني العلم في عصره وخاصة العلم الديني وبصورة أخص التصوف المتفلسف.

فغالبا ما يتوهم الكثير أن حب التاله عند التصوف الفلسفي وكأنه تدين عميق. لكنه في الحقيقة سلطان روحي مزعوم للتوسط بين الإنسان وربه وتتبين حقيقته عند الكلام على على حلول الله في المتصوف (ما في الجبة) أو على فناء المتصوف في الله (توصف الوحدة المطلقة) وكلاهما وساطة وتسلط على بقية البشر.

ولذلك فهذا الموقف رغم كونه في المستوى الرمزي لا يختلف عن التأله لدى الحكام المستبدين كما في مثال محاورة ابراهيم للمستبد الذي ادعى إنه يحيي ويميت فعاجزة بحركة الشمس. وكل مستبد متأله بهذا المعنى. وهو متألف بسلطة مادية في السياسة بخلاف المتصوف الذي يتأله بسلطة رمزية في الدين.

وهذه أساس الوساطة بين الله والإنسان الذي يفقد منزلة الخليفة وتلك اساس الوصاية على أمر الإنسان الذي يفقد منزلة معمر الارض بقيم الاستخلاف. ولا يمكن أن يحصل ذلك من دون أن يدعي المستبد المادي أنه رب في الارض والمستبد الروحي أنه رب في السماء إما لأن الله حل فيه أو هو فنى في الله.

ومن هنا يأتي العنف المضاعف وهما دائما متحالفان حتى لما يتنافس سلطانهما. ذلك أن الثاني يعتمد على شوكة الأول والأول يعتمد على ما شرعنة الثاني.ولأن الله يعلم أن ذلك سيكون كذلك أعلم الرسول الخاتم بأنه “إنما أنت مذكر” أي لست وسيطا بين الإنسان وربه وأنه “لست عليهم بمسيطر”ولست وصيا.

وفي ذلك دحض لدعويين هم سركل تأله بهذين المعنيين المفسدين لمعاني الإنسانية أي النافيين لتعريف الإنسان من حيث هو إنسان بكونه “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” (ابن خلدون):

1-الأولى نظرية شعب الله المختارفي اليهودية

2-نظرية الأسرة المختارة في التشيع

وكلتاهما تتأسسان على الوساطة الروحية والوصاية السياسية غير اليهود من البشر اليهودية جوهيم واعتبار غير الشيعة منهم أكثر من الجوهيم لأن جوهيم اليهود يعتبرون عبيدا لهم في الدنيا فحسب لأنهم لا يؤمنون بالاخرى وجوهيم التشيع عبيدا في الدنيا و الآخرة لإيمانهم بالأخرى.

وهذه فرصة للرد على من يزعمون أني متحامل على التشيع بل وذهب بعضهم إلى اعتباري ناصبيا. ولا يوجد رد أبلغ من قوله تعالى للرسول الخاتم “إنما أنت مذكر” نفيا للوساطة و”لست عليهم بمسيطر” نفيا للوصاية. وتحقيقا للمناط يبين أنهما مقومان لعقيدة التشيع.وإذن فالتشيع ليس من الإسلام في شيء.

وإذا كانت نظرية شعب الله المختار قد دحضها الإسلام بأن جعل لكل أمة رسولا بلسانها نفيا لحصر العلاقة المباشرة بين الله وعباده خاصية لشعب مختار وبأن جعل الرسالة الخاتمة للبشرية كلها لئلا يظن العرب أنها لهم شعبا مختارا آخر بدعوى آل بيت ابراهيم وجواب الله معلوم: لاينال عهدي الظالمين.

فإن هذا الدحض يتضمن كذلك دحض نظرية الأسرة المختارة. فآل البيت لا أثر لها إلا بآل بيت أبراهيم لأن دلالتها في الكلام على أهل بيت النبي تتعلق بنسائه أي بأمهات المؤمنين ولا أحد سواهم. ولكن حتى لو قبلنا برواية من يعتبر من ضمهم الرسول إليه هو القصد فذلك دون دلالة آل بيت ابراهيم.

وهذه رأينا جوابها على طلب ابراهيم (البقرة 124) ما يعني أن المصطفى منها ليس لانتسابه إلى الأسرة بل لما عرف عنه من عدم الظلم ويستثنى منها من كان ظالما ولما كان فيه طالمون فهي ليست مصطفاة سأسرة بالمصطفى منها هم بعض من اختاره الله ليكون رسلا أو أنبياء. فتسقط كل الحجج.

وبذلك يتبين أني لست متحاملا على أحد بل عارض لما يحاول الكثير إخفاءه من أجوبة القرآن في المسألة. ويبقى أمران آخران أولهما هو تأويل حديث الغدير المزعوم الذي ينافي ما بيناه في أجوبة القرآن نفيا للوساطة والوصاية حتى على الرسول نفسه ناهيك عن علي: فهو لا يعني ىوصية علي على الأمة.

وحديث الغدير صحيح لكن تأويله خاطيء. فهو بالعكس وصية الرسول للأمة على بيته لعلمه أن أهله من بعده قد يستضعفون بسبب ما يتوقعه من عودة نعرات الجاهلية ولعلمه أن فرع الرسول وأهله من قريش ليس ممثلا لعصبية قوية كما بين ذلك ابن خلدون. حديث الغدير وصية الأمة الأمة بهم خيرا حتى لا يضطهدوا. ولا شك أنه قد حصل شيء من ذلك بعد الفتنة الكبرى. لكن المستفيد منه ليس بيته بل من أراد استغلالهم ليثأر من الإسلام عامة ومن العرب خاصة لكونهما قضيا على امبراطوريتهم.

أما الأمر الثاني فلا يحتاج إلى كلام كثير. فلا أحد ينكر أن توظيف مظلومية التشيع في كل مراحل التاريخ الإسلامي جعل المنتسبين إليه دائما في حرب على الأمة وحلفاء لكل أعدائها.ويكفي دليلان:

1-الحلف مع مغول الشرق والغرب من القرون القرون الوسطى إلى نهاية التاريخ الحديث .

2-والحلف مع مغول الغرب والشرق من بداية الغرب المعاصر إلى سيطرة أمريكا عليه.

من د. أحمد الشربيني

باحث في علم الأتمولوجي، دكتوراة في علم اللغة والدراسات السامية والشرقية