المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب وعند الغربيين
“الأدب هو مأوى حقيقة الوجود”.

إن كل نظرية علمية كيف ما كانت تخضع لمنطق التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتغير بشكل مستمر، ومنه فالنظرية الماركسية هي الأخرى ظهرت بظهور مجموعة من التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إبــان القرن السابع عشر، ودشنت هذه التحولات بظهور النظام الرأسمالي بزعامة البرجوازية وتراجع النظام الإقطاعي الذي كان النبيل يتزعمه. وقد شهد المجتمع الرأسمالي قبل ظهور النظرية الماركسية مرحلة طويلة من التحولات، بدأت منذ أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، ففي البداية تطورت الرأسمالية داخل حدود العلاقات الاجتماعية الإقطاعية، وبالتالي فقد عاقت هذه الحدود نمو المجتمع البرجوازي الناشئ.

وعند نهاية القرن السادس عشر أدت الثورة التي وقعت في هولندا البروتستانتية إلى فسح الطريق أمام تطور الرأسمال الحر في هذا البلد البرجوازي النموذجــي يومذاك، على أن الثورة البرجوازية الإنجليزية 1748م انطوت أهميتها على إحداث أثر أدى إلى تطور الرأسمال في أوربا، إلا أن هذه الثورة ذات طابع ديني يتجلى في كون الإنجليز رفعوا شعار مملكة الله والتي يأملون تأسيسها، غير أن هذه المملكة لم تكن سوى مجتمع برجوازي أضفى عليه الطابع المثالي السلطة في شتى العلوم والفلسفة والفكر.

وكانت الثورة الفرنسية الكبرى 1789م أكبر ثورة برجوازية أوربية أدت إلى ارتفاع الصناع البخارية بين 1800 و1810م، ممــا أدى إلى تضاعف إنتاج الحديد الصلب ثلاث مرات تقريبا، إلا أن هذا الإنتاج الضخم لم يؤدي إلى تحسين أوضاع الجماهير الشعبية مما أدى إلى اتساع الهوة بين طبقة العمال والفلاحين الفقراء وبين الطبقة البرجوازية ومنه إلى مجموعة من الانتفاضات الشعبية والعالمية في سنوات 1819 و1839، وهذا ما أفرز لنا بشكل موضوعي النظرية الماركسية بزعامة الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818-1883). وعموما فالفلسفة الماركسية غيرت مجرى التاريخ الفكري والفلسفي، وذلك بنقدها للفلسفة المثالية التي سيطرت على الحقل العلمي الغربي والتي كانت سائدة منذ عصر الفلاسفة اليونان إلى حدود الفيلسوف هيجل. ليأتي صاحبنا هذا ويقيم هذه المثالية على رجليها لتتحول إلى الفلسفة المادية، ومن بين المفاهيم التي ترتكز عليها الماركسية في تحليلها للبنى الاجتماعية نذكر المادية الجدلية والمادية التاريخية، هذا مع العلم أن المادية هي التفسير العلمي للكون، وهذا يبين أن الماركسية لم تظهر من أجل تفسير المجتمعات الإنسانية فحسب، بل تختزل في عمقها تصورا عاما للكون نفسه.

ويأتي هذا الموضوع ليناقش الجانب النقدي في النظرية الماركسية، وكذا كيف تنظر هذه الأخيرة إلى الأدب في أعلى تحققه في الواقع، أي الأدب الواقعي، وفي هذا الصدد فالأدب من المنظور الماركسي خاضع بدوره للقوى الاقتصادية والأيديولوجية، وليس لأية قيم فنية جوهرية أو مستقلة. هذا بالإضافة إلى الهيمنة التي تفرضها الحركة الأفقية التصاعدية للتاريخ، والتي بمقتضاها يتحرك تاريخ الفن والأدب تجاه مستويات عليا بالغة في التعقيد.

وفي اتجاه آخر، فالماركسية ترى بشكل طبيعي أن واقع التناقضات يؤدي إلى ميلاد أدب جديد يضع البروليتاريا في المركز، وللأديب حرية التعبير عن همومه الشخصية لكن شريطة ألا يفكر في الحاضر بعقلية الماضي، أي أن يحترم حركة التاريخ ويؤمن بحتمية التقدم.

وبناء على ما سبق، ففي الخمسينيات من القرن الماضي ظهر تيار نقدي كان يعرف باسم “النقد الأيديولوجي”، وهذا النوع من النقد تأثر بالفكر الماركسي، وهذا التأثر ولد لنا ما يعرف بـ: “الواقعية الاشتراكية” أو الواقعية الجديد. وقد دعت هذه “الواقعية الاشتراكية” إلى تبني الأدب الهادف ذو المضمون التقدمي، وكذا ترمي الواقعية إلى مهاجمة الرومانسية البرجوازية المتسلطة، علاوة على ذلك فقد تصدر الأدب والنقد الواقعي هرم الدراسات الفكرية آنذاك بما يمثله الأدب الواقعي والحمولة الفكرية والثقافية التي جاء بها، فواجب الأديب الواقعي أن يكون ذا نظرة متكاملة إلى العالم الذي يحيا فيه، نظرة تعبر عن فهم مترابط لهذا الكون وأطواره، وبشكل خاص ينبغي أن يتضح هذا جليا في فهمه لمجتمعه الخاص واحتكاكه الدائم به. وعلى الرغم من أن “الواقعية الاشتراكية” هي الماركسية اللينينية في مجال الأدب، وأن النقاد الماركسيين كانوا بارزين على الساحة منذ أواسط الخمسينيات، فإن أحدا لم يكن يتكلم عن الواقعية الاشتراكية، بل عن الواقعية فحسب، وهذا في نظري إجحاف في حق الأدب الماركسي من طرف النقاد الماركسيين أنفسهم، لأن منطلقات الفكرية للتيار الواقعي كانت هي مضامين النظرية الماركسية، إلا أن محمد مندور الناقد العربي في كتابه “الأدب ومذاهبه” كما أشار إلى ذلك صاحب كتاب ” المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب وعند الغربيين” شكري محمد عياد، هو من أنصفها بشكل جزئي حين أطلق على “الواقعية الحديثة” اسم “الواقعية الاشتراكية” موظفا هذا المصطلح في المؤسسة التعليمية، وكانت سمتها البارزة في نظره سمة أخلاقية تتفق مع نظرية الأخلاق الكلاسيكية. فالواقعية الاشتراكية تصور جانب الخير في الإنسان، على عكس الواقعية البرجوازية التي تصور جانب الشر، والواقعية الاشتراكية تستحق اسم الواقعية لأن “الواقع” في الأدب لا يلزم أن يقتصر على ما هو كائن بل يصبح أن يشمل ما يمكن أن يكون، وهي أيضا مذهب أدبي متقدم يصور ذلك المجتمع المتقدم أو يعتبر حسب التعبير الماركسي انعكاسا له.

وما يعاب على هذه الواقعية، أنها لا تنظر إلى تلك الجوانب الروحانية للمجتمع هذا بحكم المنطلق الفكري الذي تغترف منه، أي؛ المادية الجدلية التي لا تؤمن بالروحانيات، وهذا الإقصاء للجانب الروحي من الواقعية الاشتراكية أدى إلى طمس المفهوم الهوياتي والثقافي، في مقابل الاقتصار على العلاقات المادية والاقتصادية في بعدها الأدبي، وكذا علاقة علاقات الإنتاج بالحياة الفكرية الأدبية، وكما تدرس دور الصراع الطبقي في ميلاد أشكال أدبية تحمل وتترجم ذلك الوعي الممكن بتعبير لوسيان غولدمان بالمتعلق بالطبقة الكادحة.

وما نخلص إليه في هذا الصدد هو أن تجربة الأدب الواقعي لا بد أن تتسم بسمة الشمولية والكلية وأن تعكس بمفهوم الانعكاس اللينينني صورة المجتمع الكائنة حتى يتسنى للنقد الماركسي أن يبني دراسته المجتمعية عليها ويوصلنا إلى إجابة علمية لواقع التناقضات والصراع الطبقي الدائم من خلال الأعمال الفنية والأدبية..

المرجع المعتمد:

المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب وعند الغربيين. شكري محمد عياد.

من سعيد المرتضي سعدي

باحث الدكتوراه، جامعة شيتاغونغ الحكومية، شيتاغونغ، بنغلاديش مدير، مدرسة الحضارة الإسلامية.