في مقالة سابقة ذكًّرت بها أخواني وأحبتي بأخوة الإسلام العامة والخاصة، ولكن مع شيوع آفات حالقة تحلق أديان بعض الإخوة وتُذِهب حسناتهم، بانتهاكهم حقوق الأخوة التي رتبها الله تعالى لكل أخ مسلم على أخيه أكتب هذه السطور نصيحة لله وحدبا على الصالحين.

 الاختلاف بين القدري والشرعي:

شهدت الأمة في تاريخها الطويل انقسامات واختلافات، مذهبية وطائفية، وانبثقت منها فرق وجماعات، بعضها وافق السنة وكثير منها سقط في الابتداع والانحراف، وتلك سنة الله الماضية “ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم”.

فالاختلاف أمر قدري، وهو من قوانين الله تعالى في هذا الكون، لكن هذا القدر المحتوم يقابله أمر شرعي كُلِّف به المؤمنون وهو: الكيفية الشرعية في التعامل مع هذا الاختلاف كقضية قدرية كونية، حتى لا يستسلم المسلم للقدر، ويهمل في مقابله الجانب الشرعي فيحتج بالأقدار وينسى الشرائع.

بين الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم:

معلوم أن الاختلاف يكون مذموما في حالات منها:

إن وقع في الأصول الإسلامية في أي شعبة من شعب الإسلام (العقدية أو العبادية أو الأخلاقية أو التشريعية).

أو أفضى إلى شحناء وبغضاء وتخاصم وتقاطع وتدابر، وقطع أواصر المحبة والإخاء.

أو وقع عن هوى وتشهي لا عن إخلاص وحسن قصد.

وما سوى ذلك من الخلاف الحاصل بين المؤمنين مقبول متى صحت النيات وسلم القصد.

فالخلاف الفقهي مقبول وأمره بين الأمة معلوم حيث المذاهب الفقهية السنية الرائجة بين الأمة. والخلاف الدعوي مقبول كذلك وهو معلوم كذلك في تعدد التيارات الدعوية المشهورة في الأمة حيث تعدد الأنظار في مناهج الدعوة وأساليبها ووسائلها وأولوياتها.

آفة وانحراف أخلاقي بين العاملين:

مع تجدد الأحداث وتعقد كثير منها في عالمنا العربي والإسلامي تختلف مواقف العاملين للإسلام تجاه تلك الأحداث، وتتباعد في تحليلها آراؤهم فيختلفون وربما سلك كل واحد منهم طريقا غير الذي سلكه صاحبه في معالجة ما يجري. حتى غدا أمر اختلافهم مشهورا منشورا بين العامة والخاصة.

فهل مثل هذا الاختلاف في الرؤى والمواقف يذهب معه الإخاء وتتبخر معه حقوق الأخوة الإسلامية؟

وهل مثل هذا الاختلاف يبيح الغيبة ويبرر اتهام المخالف وانتقاصه؟

هل مثل هذا الاختلاف يقتضي المقاطعة وترك إلقاء السلام؟

وهل مثل هذا الاختلاف يبيح التشهير والمبالغة في إلقاء التهم؟

هل تذهب معاني الأخوة أدراج الرياح لمجرد أن سلك أخوك طريقا ارتضاه لنفسه في خدمة الدين غير الذي ارتضيته وإن كان مرجوحا في نظرك؟

إن كل ذلك حاصل لدى البعض مع الأسف الشديد، وكأن القوم ما تآخوا من قبل، ولا جمعتهم صلوات ومساجد، وساحات ومواقف، ومأكل ومشرب.

وإنني أقول لهؤلاء ناصحا محبا مشفقا، تذكروا الأصول الإسلامية الآتية:

قوله تعالى «إنما المؤمنون إخوة» وقوله تعالى «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»

وقول رسولُ الله ﷺ «كُل المسلمِ على المُسلمِ حرام: مالُهُ، عِرضُهُ، ودَمُه، حسبُ امرئٍ من الشرِّ أن يحقرِ أخاهُ المُسلم».

وروي: «ومن رمى مسلماً بشيءٍ يريدُ شَيْنَهُ بهِ حبسهُ الله على جسرِ جهنم، حتى يخرُجَ مما قال».

قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإنْ لم نتفق في مسألة”.

وقال ابن تيمية رحمه الله: «لو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة».

ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل:

عندما تسود البطالة جموع الدعاة فإن الشيطان يشغلهم بأنفسهم بعد أن تركوا واجباتهم، وتأسن حياتهم بعد أن كانت متجددة بالعمل والدعوة ونفع الناس.

عندما تقسو القلوب وتغلب المعاصي وتسود الغفلة عن الآخرة تضيع الأخوة وتتلاشى معانيها، وتستباح الغيبة والنميمة والتشهير.

عندما يدخل حظ النفس ويغلب حب الظهور، يسهل الاتهام وتسري البغضاء بين العاملين للإسلام تحصد حسناتهم كما تسري النار في الحطب اليابس.

عندما يسخط الله على قوم يسلبهم العمل ويعطيهم الجدل.

فيا إخوتاه: ليمسك كل واحد منا لسانه عن إخوانه إلا بخير.

وليحفظ قلبه من كل كره وغل وبغض نحوهم.

وليحفظ وقته وأنفاسه أن تضيع سدى في القيل والقال.

ولندع من كل قلوبنا لكل عامل وداعي أن يوفقه الله ويصلح شأنه، وإن فارق طريقك وسلك غير سبيلك، إن أعمارنا أثمن من أن تضيع في مهاترات فارغة، وانشغالات تافهة، ومتابعة لوسائل التواصل من شأنها استهلاك الأعمار وتضييع الأوقات، فنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة.

ولنبك على ذنوبنا وخطايانا، ولندرك ما تبقى من ساعات العمر لننقذ أنفسنا من النار، وقد قال الواعظ لعمر بن عبد العزيز: «واعلم يا أمير المؤمنين أنه لن ينفعك من دخل الجنة إذا دخلت أنت النار، ولا يضرك من دخل النار إذا دخلت أنت الجنة».

مسك الختام ما بينه الله تعالى من شأن المؤمنين الذين صفت قلوبهم ومحبتهم للسابقين واللاحقين فقالوا «ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا».

وغلا: يعني غشا حسدا وبغضا. قال ابن زيد، في قول الله: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا) قال: لا تورث قلوبنا غلا لأحد من أهل دينك.

قال القشيري: «أي والذين هاجروا من بعدهم، ثم أجيال المؤمنين من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة.. كلّهم يترّحمون على السلف من المؤمنين الذين سبقوهم، ويسلكون طريق الشفقة على جميع المسلمين، ويستغفرون لهم، ويستجيرون من الله أن يجعل لأحد من المسلمين في قلوبهم غلّا أي حقدا. ومن لا شفقة له على جميع المسلمين فليس له نصيب من الدّين».

اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك.