يتساءل الكثيرون: لماذا يسيطر اليساريون (الشيوعيون الناصريون القوميون) على النخبة المصرية في مجالات (الصحافة والإعلام الثقافة – الفكر)؟ وهي التي تقود وتشكل الرأي العام؟ ولماذا غاب الإسلاميون عن هذه المجالات بشكل كامل؟ رغم شعبيتهم الكبيرة؟

 الإجابة بسيطة، وهي أنه عندما قامت حركة يوليو١٩٥٢م، لم يكن هناك تقريبًا يساريون في هذه المجالات، وكان الإسلاميون (الإخوان وغيرهم) هم الموجودين، بحكم وجود الإخوان وانتشارهم في المجتمع.

 كلنا يعرف ملابسات العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر قبل يوليو١٩٥٢م وأثناءها وبعدها، وكيف بايع عبد الناصر الإخوان، ثم اكتشف أن الإخوان لن يتركوه يقودهم فيما يخص التخطيط والتنفيذ لعمل عسكري في الجيش، فهم تنظيم كبير، له أصوله وقوانينه، وله هرميته وقيادته، وله آلية في صنع القرار، ثم وجد أنه عندهم؛ لن يكون قائدًا كما كان يحلم، وإنما سيكون مجرد عضو رتبته مقدم وسط أعضاء آخرين، كثيرون منهم أقدم منه تنظيميًا وذوورتب عسكرية أعلى منه (مثل عبد المنعم عبد الرءوف) أو مساوية له، ووجد أن المطلوب منه أن يكون جنديًا في هذا التنظيم يسمع ويطيع حتى تأتيه الخطط والأوامر فينفذ.

 اعترض جمال عبد الناصر على هذا الوضع (بينه وبين نفسه.. فهو لم يخبر بذلك الإخوان، ولم ينخلع من بيعته لهم) وقرر أن يكون تركيزه على تنظيم «الضباط الأحرار» وليس على تنظيم «الضباط الإخوان».

 التنطيم الهرمي الكبير ذو الجماهيرية الواسعة، من الطبيعي أن تكون حركته بطيئة، وكل خطوة محسوبة بألف حساب، بل حساباته معقدة (لأنه يخشى على أعضائه إذا فشل التخطيط) عكس تنظيم صغير قليل العدد جدًا وغير مكبل بالحسابات المعقدة، وهو في نفس الوقت تحت قيادة ضابط مخاطر ومجازف، يحلم بالقيادة والسلطة والدنيا والوجاهة والزعامة.

 ساعدت الظروف، وساعد مجموعة «الضباط الأحرار» اختيارهم للواء محمد نجيب، كواجهة لهم.. فهو رجل محنك، كبير السن، عاقل ومتزن، متعلم ومثقف وحاصل على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي، وشخصية وطنية لا يشق لها غبار، ومحبوب في الجيش.. المهم أن التنظيم نجح في خطته.. وهنا تغير كل شيء، وأصبح هناك واقع جديد على الإخوان التعامل معه.

 مع تطور الأحداث.. قويت علاقة الإخوان بمحمد نجيب، وكان هذا طبيعيًا، وساءت علاقتهم بعبد الناصر، فقد خذلهم في كثير من المواقف، ولم يتحسب الإخوان لردة فعل رجل مثل عبد الناصر، جائع ومتوحش للسلطة، وفي نفس الوقت يدرك حجم وقوة وشعبية الإخوان، وأنهم القوة الشعبية المنظمة التي تهدد أحلامه التي لا تحدها حدود.. لم يتحسب الإخوان لوحشية وجبروت عسكري صاحب مشروع للانفراد والاستئثار بالحكم، ولم يتخيلوا أنه يمكن أن يبطش بهم كل هذا البطش بمثل ما حدث من جبروت وظلم.. كان عليهم أن يداروه أكثر من ذلك.. وألا يثيروا حفيظته وعداوته بمثل ما حدث.. ولا أن يضعوا بيضهم كله في سلة الرئيس محمد نجيب.. كان عليهم أن يفصلوا بين الضابط الذي جاءهم من قبل مبايعًا وكان يتردد على مقرهم.. وبين هذا الضابط نفسه الذي أصبحت في يديه مفاتيح البلاد الأمنية والسياسية والعسكرية.. حتى وإن كان الرئيس الشكلي هو اللواء محمد نجيب.

 حينما وصلت العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر إلى طريق اللا رجعة، وحدث الصدام الكبير والخطير؛ تغير كل شيء، وكان خيار عبد الناصر ومشروعه هو استئصال شأفة الإخوان، وإبادتهم من الوجود إن استطاع.

 على هذه الخلفية كانت سياسة الدولة، بعدما تخلص عبد الناصر من الرئيس محمد نجيب، هي منع أي صحفي أو مثقف أو مفكر أو مدرس أو مهندس أو طبيب أو أكاديمي، ذي خلفية إسلامية فضلاً عن أن يكون إخوانيًا، من العمل في مؤسسات الدولة، بل كان المكان الطبيعي لهؤلاء هو السجن لعشرات السنين أو حتى القتل.

 خلا الميدان تمامًا إذًا من أي إسلامي، خاصة في المجال الإعلامي أو الثقافي والفكري، وكان من الطبيعي أن يبحث عبد الناصر ونظامه عن نخبة جديدة، ووجد ضالته في الشباب أو حتى الكبار الذين تأثروا برؤيته وبمبادئه الاشتراكية، وملأ أعضاء التنظيم الطليعي الفراغ مع ما هو معروف عنهم من رؤية وتربية قومية يسارية اشتراكية، كما فتح النظام أبواب مؤسساته الصحفية والثقافية أمام الشيوعيين بفعل العلاقة الوطيدة بينه وبين الاتحاد السوفيتي، وبرغبة النظام ونظرته في أنه لن يملأ فراغ الإخوان والمتدينين عمومًا إلا اليساريون والشيوعيون.. وهو ما كان.

 طيلة حكم عبد الناصر، تمكن الشيوعيون واليساريون، من المؤسسات الصحفية تمكنًا تامًا وكاملاً؛ وأصبحوا يفرّخون كوادرهم، واستمر ذلك طيلة حكم السادات، لأنه لم يفتح السجون ويبدأ في إخراج الإخوان إلا عام ١٩٧٤م، وطبعًا لم يكونوا شبابًا، بل كان الذين دخلوا السجن منهم شبابًا أصبحوا في منتصف الأربعينات، وانشغلوا بأنفسهم وأسرهم ومعايشهم، وكان منهم من لم يتزوج وهو في هذه السن، ولم يكن لدى هؤلاء رغبة ولا جلد لاختراق المؤسسات الصحفية والثقافية.

 بدايات الاختراق للمؤسسات الصحفية كانت في النصف الثاني من الثمانينات في عهد مبارك، وكانت عن طريق مجلات «الدعوة» ثم بعد ذلك «الاعتصام» و«المختار الإسلامي» ثم بعد ذلك في بعض الصحف الحزبية.. لكن الاختراق لم يصل للمؤسسات القومية، التي ما زالت عصية على الاختراق حتى الآن.

 من النخبة الصحفية خرج معدو البرامج ومقدموها ورؤساء تحرير البرامج والصحف والمجلات وكتاب الأعمدة.. وبالتالي قادة الرأي العام. وعن طريق العاملين وقادة وزارة الثقافة والأدباء الشيوعيين واليساريين.. خرج بقية النخبة وقادة الرأي العام.. ولكن هذه المرة بدون أي اختراق إسلامي لهذه المساحة ولهذه المنابر.

من د. منير جمعة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين