ألمح في أحوال بعض قراء الأدب الذين تحلو لهم أمزجتهم بعض الليالي فيمسكون أقلامهم ويكتبون.. فيخيل إليهم مخدوعين ببعض ما قرؤوا من شعر أبي نواس، أنه تاب وأحسن التوبة والندم ورجع إلى ربه، وما هذا بقول سليم وفهم سديد، فإن ما كتبه الرجل في الزهد والمناجاة، لم يكن إلا توصيفا لحالة نفسية عارضة، سرعان ما تمر وتنقضي، ثم يعود لسالف حاله من المجون والفسوق، ومن ثم لقد كتب في كل شيء فصدق عليه قول الحق (في كل واد يهيمون) فأشعر في الزهد وأنشد في التوبة والورع، وبرع في المجون.

وأحيطك علما أيها القارئ أن هذا الحديث قد يخطئ في فهمه بعض الزائرين، فيظننا نحكم على عقائد الناس ومصائرهم عند الله، ونتدخل في نيات الخلائق وأحوالهم الإيمانية، وما هذا هو القصد

وإنما نقول: إن الحديث هنا حديث أدب، والكلام هنا في تاريخ الأدب، حتى نهدئ من روع الظنون التي تتشعب بين لطمات الأفهام.

فليتب صاحبنا ألف توبة، وليكن من أهل الجنة والحائزين للفردوس الأعلى، فذلك شأن الحق فيه، لكننا نقرر ما أخبر به التاريخ الأدبي، مما يتقول بغيره كثيرون ولنا الحق فيه، مجرد إخطار قد يفيد البعض، وقد يراه غيرهم من ضروب العبث.

إن البعض يدهشه روعة النظم ولهيب الكلمات، فيخيل لهم أنها التوبة النصوح لرجل أسرف على نفسه كثيرا، فيرددون على البرايا تاب أبو نواس تاب أبو نواس.

بهذا انخدع كثير من المستشرقين الذين ترجموا للحسن بن هانئ، وأعلنوا توبته من خلال ما عاينوه من أقواله.

ولكن الرجل لم يتب من شيء، وإنما كان كما قيل: كصاحبة جميل تذبح العصافير في قسوة، وتدمع عليها في رحمة.

فلا تنظري يابثن للدمع وانظري ** إلى الكف ماذا بالعصافير تصنع

لقد قال الرجل أقوال الزهاد، ولكنه فعل أفعال المجان.

لقد أجرم هذا الرجل في حق أدبنا وتراثنا، وكنا ندرس الأدب في الأزهر فنقرأ أن شعره وصمة عار وسبة في جبين اللغة العربية.

ومما يدل على عدم استقامته حال حياته ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية

“وقال محمد بن إبراهيم: دخلنا عليه وهو في الموت، فقال له صالح بن علي الهاشمي: يا أبا علي! أنت اليوم في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، وبينك وبين الله هنات، فتب إلى الله من عملك.

فقال: إياي تخوف؟ بالله أسندوني.

قال: فأسندناه.

فقال: حدثني حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي شفاعة، وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة)).

ثم قال: أفلا تراني منهم؟ وقال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت عن ستين امرأة منهن: خنساء، وليلى، فما الظن بالرجال؟”

وكذلك ما روي عن الإمام الشافعي رحمه الله في قوله: لولا مجون أبي نواس؛ لأخذت العلم عنه.

فدل ذلك على أن الرجل لم يتب، ولم تكن له توبة مشهودة معلومة كما يشيع بعض القراء مما يظنون من أقواله.

بل جاء كذلك في ترجمته لدى ابن كثير قوله: «وبالجملة فقد ذكروا له أموراً كثيرةً، ومجوناً وأشعاراً منكرة، وله في الخمريات والقاذروات والتشبب بالمردان والنسوان أشياء بشعة شنيعة، فمن الناس من يفسقه ويرميه بالفاحشة، ومنهم من يرميه بالزندقة، ومنهم من يقول: كان إنما يخرب على نفسه، والأول أظهر، لما في أشعاره.

فأما الزندقة فبعيدة عنه، ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة.»

وبعضهم ينسب إليه هذه الأبيات ويذكرون أنه قالها في مغالبته للموت، وذلك حتى لو حدث، فإنه لا يدلل على التوبة المقصودة التي يشير إليها الكثير من المخدوعين بأنه تاب واستقام وحسن سلوكه، وهذا العمري  تكلف على الحقيقة.

أما هذه الأبيات فهي قوله:

يا سوءتا مما اكتسبت ويا  اسفي على ما فات من عمري

ايا من ليس لي منه مجير  بعفوك من عذابك استجير

انا العبد المقر بكل ذنب   وانت السيد المولى الغفور

فإن عذبتني فبسوء فعلي   وان تغفر فأنت به جدير

افر اليك منك وأين الا     اليك يفر منك المستحير

كما وجدت أبيات أخرى في الفراش الذي مات فيه يقول فيها:

يا رب ان عظمت ذنوبي كثرة    فلقد علمت بان عفوك أعظم

ان كان لا يرجوك الا محسن     فبمن يلوذ ويستجير المجرم

ادعوك رب كما أمرت تضرعاً    فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي اليك وسيلة الا الرجا      وجميل عفوك ثم أني مسلم.

ثم يقف بعضهم ليعلن أن الرجل حج بيت الله، وكان له شعره الرهيف في المشاعر المقدسة، وما أرسلته من ومضات روحية تأثرت بها نفسه،  لكنه لم يكن قول توبة أو حج استقامة، ولكنه كما ثبت عنه بتصريحه ولوعه بجارية من الجواري، كان هائما مفتونا بها، يسير وراءها في الطرقات ويتوسلها أن تلين له، وهي معرضة مكذبة ناهرة، فلما بلغه ذهابها للحج مع سيدها، عزم أن يحج سيرا وراءها لا سيرا إلى الهداية، وكان حجه لغير الله، وهو يعلن ذلك للجميع بلا حياء أو استنكار.

ونحن هنا لا نتدخل في نيات ولكننا نرصد حالة ونصحح فهما أدبيا يقع فيه كثير من الخلط.

فتوبة أبو نواس لم تكن إلا على فراش الموت كما ورد، لكن حياتها في حال الصحة وكمال العافية لم تسجل هذا الظن الذي تهفو إليه أفهام بعض العاطفيين.