كن معي أيها الكاتب الواعد، فأنا اليوم أريد أن أنصحك نصيحة كثيرًا ما رددتها عليك وأوصيتك بها، ولكن اسمح لي أن أذكرها لك اليوم في شكل مختلف، وثوب مغاير، إنني أرويها لك من وحي الزنزانة لكاتب أديب تجرع ذل السجن ومرارة الاعتقال.

وقبل أن أروي لك ما حدث أريدك أن ترجع معي إلى الوراء، وتسافر في صحبتي عبر عقود طويلة في عمق الزمان، إلى ذلك العهد من أيام الاحتلال الإنجليزي الذي جثم على صدر بلادنا، واحتل وطننا، لنشاهد سويا هذا الموقف، وعليك أن تضع نفسك في حال من نتحدث عنه، فتتخيل وقتها أنك كنت وطنيا شهما شجاعا، تكافح وتناضل وتشارك في ثورة بلادك على المحتل الغاشم.

تخيل وقتها لو داهموك في بيتك، فماذا يكون أول شيء تفكر فيه؟ هل سيكون وقتها في ذهنك شيء من أغراض الحياة ومتع النفس؟ إن الهلع وقتها سينسيك كل شيء، والظلام الذي يقودونك إليه يُذهب من عقلك تفكيره في أي رغبة، ولن يكون في خاطرك ساعتها إلا شيء واحد وهو الدعاء لله القدير: يارب سلم سلم.

أنا لا أريد منك أن تتوه في دروب التأمل، أو تتصور أنني أريد منك أن تنسج قصة من وحي الخيال، ولكنني الآن وقد صحبتك عبر هذه العقود الطويلة للوراء من الزمن، أردت أن أقف أنا وأنت على مشهد أديب مصري أزهري بطل، كان له كفاحه ونضاله من أجل بلاده، ولقد أدى به هذا النضال أن يكون مشردًا في الشوارع، يبيت في المساجد وينام طاويا بطنه عن جوع أليم، ولا يستطيع الاقتراب من بيته حتى لا يتم القبض عليه، لأنه يعلم أنه مراقب مرصود.

ولقد كان من أمر هذا الأديب عجبًا، ففي ظل هذا الموقف الخطير، عزم أن يذهب إلى شقته الصغيرة يوما يتسلل اليها في جنح الظلام، وإذا به في ظل الحرص الشديد والترقب الحذر، يفقد عقله وحكمته ورشده أمام سحر القراءة، فيحن إليها في عمق الليل، ويشعر بجاذبية تأخذه نحوها، فيضيء المصباح، وما أن أضاء المصباح الذي ساقه إليه ذلك السحر الذي سيطر عليه، حتى وجد من يطرق الباب بقوة ويقول له: افتح الباب يا أستاذ، وبمجرد أن يفتح حتى يجده مأمور قسم الدرب الأحمر، ومعه (15) جنديًا علموا بوجوده من المصباح وجاؤوا للقبض عليه.

ولا تحسبن أن سحر القراءة هنا قد انتهى وأدى دوره في جلب المصيبة على صاحبنا مما كان يحذره ويتهرب منه.

بل المدهش أن هذا الأديب مازال تحت أسر ذلك السحر الشديد، رغم ما ينتظره من مصير مخيف.

لقد هم المأمور بسحبه إلى السجن والاعتقال، فإذا به يقول له: أرجو أن تمهلني لحظات يا حضرة المأمور، ثم ينطلق مسرعًا في على كتبه، واختار ما يحتاجه من كتب الأدب العربي والأدب الفرنسي، وربط كل هذه الكتب في بطانية، وخرج في صحبة الجنود الذين التفوا حوله من كل جانب.

ولو أن واحدا غيره لقفز على موضع الطعام يتناول لقمة أو لقمتين، أو يحمل معه منه زادا يكفيه إن شعر بجوع تنبح منه معدته.

لكن الكتب كانت غرامه وهيامه.

وحينما صعد إلى غرفة المعسكر الذي سيحقق معه فيه، أخذ يرص كتبه وينظمها، وهم ليقرأ في الأدب الفرنسي حتى ينسى ويخرج من هذا الواقع الكئيب، وهو كذلك من عجائب سحر القراءة، لعل الإنسان لو قبض عليه أعداء وطنه ينسى كل شيء ولا تطوعه نفسه أن تهفوا إلى أي متعة مهما كان هواها غالب في النفوس.

لكن أديبنا كانت تسحره القراءة.

ومما يحكي من ذكريات السجن، أن زائرًا جاءه ليشاركه الاعتقال، وهو العالم الجليل مدير الأزهر وقتها الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، فصارا فيه غريمين، وكان صاحبنا الأديب تهفو نفسه للقراءة ليلا فيوقد المصباح ويقرأ بصوت عال مرتفع، فينزعج الشيخ دراز ويقول له: الله ينكد عليك، ثم يتدثر ويسلم أجفانه إلى نوم عميق، وحينما يصحو يعاتبه، فيقول له أديبنا: إن أيام الاعتقال فرصة ندرس فيها ما يمكن درسه من علوم، فيضحك الشيخ ويقول له: الله يفتح عليك.

وهنا أقول لك: لقد كان هذا الأديب هو الدكاترة (زكي مبارك) ابن المنوفية البار وأديب مصر العظيم.

وهنا أقول لك أيها الكاتب: اقرأ واقرأ واقرأ، في أحلك الظروف وأشد الأزمات لا تدع القراءة تفارقك، كن بها مسحورا حتى تكون في مرتبة زكي مبارك، التي جعلت منه القراءة زكي مبارك.