بعد سقوط الخلافة العثمانية سقوطًا نهائيًّا سنة 1924 نشأت الجماعات الإسلامية في سياق المحاولة لسد الفراغ السياسيِّ الذي حصل في الأمة لأول مرة على هذا النحو، وتصديًا لحملة التغريب الثقافية التي كانت تشنها بريطانيا وفرنسا يومئذٍ.

وذلك أنَّ إعادة الخلافة لم يكن أمرًا متاحًا، والمهمة أكبر من قدرة الأفراد، ومن ثم جاءت فكرة الجماعات؛ فتأسست جماعة أنصار السنة بمصر على يد الشيخ محمد حامد الفقي سنة 1926 بعد سقوط الخلافة بسنتين فقط، وكذلك جماعة الدعوة والتبليغ في نفس السنة على يد الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، وبعد ذلك بسنتين من ذلك تأسست جماعة الإخوان على يد حسن البنا سنة 1928.

وصارت هذه الجماعات بمثابة المسارات الكبرى التي تستوعب ما جاء بعدها، أو أنها أثَّرت عليها بقدرٍ ما.

ومنذ عقودٍ والناس مولعون أشد الولع بالتصنيف، فلا يكاد يتكلم متكلمٌ أو يكتب كاتبٌ إلا وتجد فريقًا من الناس مولعًا بشخصية المتكلم؛ إلى من ينتسب؟ وفي أيِّ مسارٍ يصب؟ وماذا يقصد؟!

والمنهجُ السويُّ الذي لا ينبغي سواه: إخضاع ما يقوله أي شخص سواء كان منتسبًا لجماعةٍ أو لا لميزان الحق والعلم والهدى؛ فهذا أدق المعايير التي يُقبل بحسبها الكلام، إلا أنَّ فئامًا من الناس صاروا يحاكمون ما يُقال بحسب شخصية القائل!

وهذا تدهورٌ في الحركة العلمية النقدية، فمعرفة الخلفية الثقافية للمتكلم أو الكاتب قد يُحتاج إليها من غير شك، لكن الشأن الغالب في العلم أنه يخضع لميزان منضبط، سارت عليه الأمة قرونًا متطاولة.

وحصل معي عدة مرات أن تَرِد إليَّ أسئلة يظهر فيها قصد السائل وتشهيه لمعرفة توجه المتكلم؛ كأن يكون السؤال عن شخصيةٍ من الأعلام يتحدد تصنيف الشخص بناءً على رأيه فيها؛ وذلك لأن التصنيف بات قنطرةً مهمة لتحديد الموقف من الكلام أو الشخص هل هو القبول أم الرد!

وربنا سبحانه مدح في كتابه الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، بينما ذم قريشًا لأنها اشترطت في شخص النبي أن يكون ضمن فئة الكبراء من قريش أو الطائف كما قال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].

والسلوك القرآني فيه تربيةٌ على قبول الحق ولو كان ممن تكره، وترك الباطل ولو كان ممن تحب، فالدين ميزانٌ دقيقٌ في القبول والرد.

وقناعتي التي كتبتها في غير موضعٍ: أنَّ الحقَّ اجتمعَ في شخص النبي حصرًا، وتفرَّقَ في أمته نثرًا.

فالحق موزع في مجموع الأمة، لا أعلم اليوم جماعةً جمعت الحق كله من جهة الواقع، ولكنها بين مقلٍّ ومستكثر، وهذا يجعل العناية بها متفاوتةً بحسب الحال الذي هم عليه.

ومن قناعاتي أنَّ كل جماعةٍ أخذت بقدرٍ من عملية الإصلاح، كلٌّ وما فُتِح له، باستثناء المداخلة؛ فهم من الفتنة التي يبتلي الله بها عباده المؤمنين، لا أعلم لهم جهدًا إصلاحيًّا سدوا به ثغرًا ما.

وعلى هذا ربَّيت نفسي، أنتصر لمجموع الأمة، كلٌّ بحسب الثغر الذي يقفون عليه، وأنصر كلَّ جماعةٍ ما وسعني ذلك، والتزمت هذا في سائر ما تكلمت في الدروس والمحاضرات أو في المقالات والكتب.

ولي رأي في كل جماعة، ومساحات الحق الذي معها من جهة الإجمال بحسب الذي يظهر، وموقفي منها موقفٌ متفاوتٌ بحسب ما معها، ولعلي أبسط ذلك يومًا في سلسلة ذات مقاطع موجزة.

والمسكون بهاجس التصنيف يعتبر أنَّ هذا الكلام كلامٌ عام، وتهربٌ من البيان؛ لأنه يتعامل مع المسائل إما أبيض وإما أسود.

وأختم الكلام بأربعةِ أمور:

الأول: باتت الأفكار اليوم إلى المائة أقرب منها إلى العشرة، والأصل في الإنسان أن يقصد بما يفعل وجه الله، فهو سبحانه الذي يكفيه الطوائف كلها، ويهديه للحق بإذنه، ولو أنه رام أن يرضي جميع الناس لتعب وأتعب، وما أظنه يصل في نهاية المطاف إلى شيء.

الثاني: الذي يخاف من التصنيف فلن يفعل أي شيء، ولهذا أوصيك أن تتكلم بالذي تراه حقًّا من غير أن تخشى التصنيف قط، والتمس أن تكون في كلامك على هدى وحجة وصدقٍ وإخلاص، وما عليك بعد ذلك بالذي يكون، ولو أن يلحقك من الأذى في ذلك ما يلحقك.

الثالث: ربِّ نفسك أن تعتني بالقول لا بالقائل؛ فهذا هو الإنصاف، ولا يضرك خروج الحق على أي لسان كان، شأنك في ذلك كناشد الضالة؛ يفرح بمن وجدها ولو لم يكن صديقًا ولا وليًّا.

الرابع: اجعل منطلقك الأكبر الأمَّةُ بأسرها، اجعل انتماءك إليها، ولو كان لك انتماء لجماعةٍ داخل بلدك فاصهر انتماءك الجزئي بانتمائك الكلي للأمة ترشد بإذن الله، وستجد ثمرة هذا في حسن عنايتك بأحوال الأمة كلها.

والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ليلة الأحد 7-11-1444 هـ، الموافق 27-5-2023

من وليد كسّاب

عضو اتحاد كتاب مصر