لم يتوقف الرّق البشري في واقعنا؛ فمن تراهم يتهكَّمون بعصورٍ خلت كان الأثرياء يشترون فيها العبيد لمصالحهم، ويجعلون لذلك أسواق نخاسة لبيع الرقيق والإماء؛ والاتجار بالبشر؛ إلا أنَّ هذا الزمن قد فرض الرأسماليون فيه عبوديّة جديدة إغوائيّة مُنظّمة باسم القانون!

فكيف إذا رأيت الناس ينساقون إليها زُرافات ووحداناً أمام موظّفٍ يبتسم لهم ويتصنّع أمامهم في الحديث!

يتقدمون للدخول في دوّامة/ بوّابة تُعطيهم الطُّعم وُلوجاً إلى مخرطة المديونيّة والقروض ؛ فيما كان العبيد والرقيق والإماء سابقاً يتمنّى كثيرٌ منهم أن يفكُّوا رقبتهم، بل يعملوا على شراء أنفسهم من أسيادهم فيما سبق من أزمنة…

عبودية القروض، والكريديت..

إنّها عبوديّة الاستهلاك؛ في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي؛ الذي يُروّج للناس السّلع حتّى يُبهرهم بها بأساليب العرض والدعاية والإعلان والتسويق؛ فتخطف الأبصار، وتخلب الألباب، وينقاد الناس إليها كأسراب القطاء حتّى يتشبّه بعضهم ببعض؛ وجُلّ المشتيات والمقتنيات من المواد الاستهلاكية أو الإنمائيّة والكماليات أو للبهرجة والزينة والتوسعة وليست ذوات حوائج شديد أو ضرورات حياتيّة لابدّ منها؛ ولا يؤتى بها إلاّ بالديون؛ هذا ولم نتحدث بعد أنّ النسبة الأكبر في المجتمعات تكون ديونه من الربا المحرّم!

فها نحن نعيش في زمن يرتضى الناس لأنفسهم أن يلتزموا بعبوديّة جديدة (عبوديّة المديونيّة)

فانتقلت من عبوديّة الرّق والاتِّجار بالبشر إلى عبوديّة اتجّار البنوك الربوية بشراء البشر!

لعلّ كثيراً من الناس اليوم يتمثّل بقول الشاعر :

أَعْطِنِي حُرِّيَّتِي أَطْلِقْ يَدَيَّا * إِنَّنِي أَعْطَيْتُ مَا ٱسْتَبْقَيْتُ شَيَّا

والدّين أو القرض غير الربوي هو بذاته يُوقع المرء في حرجٍ بعيداً عن الوقوع في الربا وغيره..

لهذا عبّر عنه النبي بتعبير دقيق فقال في حديث حسن «صَاحِبَكُمْ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ» أي أنّ الدين أسره فصار أسيراً لدائنه !

والدّين/ القرض غير الربوي مجلبة للخوف بعد الأمن؛ كما ثبت مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ’أنه سمع النبي يقول: (لا تُخيفوا أنفسكم بعد أمنها) قالوا: وما ذاك يارسول الله؟ قال : (الدين) .

والدين/ القرض غير الربوي كذلك يجعل كثيراً من الناس يغرمون المال؛ ثمّ يكذبون في مواعيد السداد؛ ثمّ يُهانون في محاكم القضاء، أو أثناء المطالبة لهم بالأداء.

وإن كان الشهيد الذي لقي ربّه لأجل مرضاته ونال أعالي الدرجات والثواب؛ يُغفر له كل شيء إلاّ الدين؛ بل لن يدخل الجنة حتى يُقضى دينه، فما بالك بغيره ممن يقترض من البنوك الربويّة قرضاً مُحرّما….؟!

وإذا كان النبي دعا على من ماطل في قضاء الدين بأن يتلفه الله ، فقال كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه،ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله).

وهذا الدعاء يتحدّث عمّن يأخذ الدين بغير قرض ربوي؛ فكيف إن كان بقرض ربوي؟!

وكيف إن كان قد أخذه لأجل المماطلة؛ فيجتمع عليه محق ماله كما في القرآن (يمحق الله الربا) وإتلاف ماله كما في الحديث : (يريد إتلافها أتلفه الله).

اللهم عافنا فيمن عافيت..