أتدري متى يزول الشرف، وتنزوي المروءة، ويكلل العار سماء البشر، وتكفر الأرض بأزهار النبل والسمو، وتوشك الشمس أن ينطفئ وهجها، ويخفق نور القمر؟

نعم إنه ذلك اليوم الذي تضرب فيه المرأة ظلما، ويشهر في وجهها السلاح، وتنال الأسنة من جسدها الرقيق الضعيف.

هذا هو اليوم الذي ينكس فيه الشرف أعلامه، لترتفع ألوية العار زاهية منتشية.!

ويحي لمن يُعادي امرأة، ويستقوي على امرأة، أو ينتقم من امرأة، أو يستهدف بحقده وغضبه عرض امرأة.

وإذا أراد المرء السفيه أن يُعلن عن سفاهته ويبديها أمام الناس، فما عليه من شيء لكي يظهر في أخلاق السقطين، إلا أن يعلن عداوته لامرأة، ويناجزها ويستقوي عليها، ينال منها ويقطع في سمعتها، ويفري عرضها، ويحاصرها بأضغانه ونَكراته.

ما أقبح الرجولة حينما تسقط على مصارع النساء، وما أحقر الرجل يوم أن تثور ثورته على امرأة، إلا أن تتجاوز حدود الله، وتحدث في الفكر والملة حدث المارقين، وما دون ذلك فالصبر والإعراض والعفو عن عنصر النساء.

هذا رجل يتزوج امرأة ويطغى عليها ويكبت حريتها ويلغي وجودها، ثم لا يتورع أن يضربها ويقسو عليها، فيسلخ جلدها ويقطع من لحمها، وتنتشي رجولته الزائفة وهو يرى دماء تنحدر على الأرض مصحوبة بجموعها.. أي رجل هذا، وكيف يصيغ لنا أن نصفه بالرجل، وقد صفع هو هذه الرجولة مع أول صفعة لطم بها زوجه.

وفي الساحة الأدبية نرى ونسمع عن بعض الأقلام التي تترصد لأدبية أو كاتبة، تهينها و تعمد إلى هدمها، ويوغل الكاتب أحيانًا وهو مأخوذ بنشوة شيطانية، فلا يتورع أن ينال من العرض والشرف، ويتقول بكلام تكاد الأرض أن تهتز له وتنشق السماء وتخر الجبال هدا.

ما أسمى الأدب وأروع الخلق، وما أروع أصحاب الضمائر اليقظة التي تغلب بيقظتها كل غضب عاصف، وكمد مضطرم.

كثيرا ما تعرضت في كتاباتي لعداوات النساء، والتي تطور النقاش معها إلى ضغينة وبغضاء، والنساء أحيانا منهن من تبرع في الاستفزاز، وتحرك مكنون الغضب، ومع قدرتي على الفتك بها، وضربها في مقتل، وخرقها بكلمات أشد دحرا من الرصاص، أتورع عن ذلك، حينما أتذكر أنها امرأة، بل يغمرني شلال من الندم حينما تخيلت لحظة من اللحظات أن جعلتها ندا لي، أبادله خصومة بخصومة وكيدا بكيد، وشرا بشر.

وكثيرا ما أدعو ربي أن يحفظ غضبي أن يعصف بامرأة، وهو السلوك النبوي الذي أوصنا به عظيمنا صلى الله عليه وسلم في قوله: رفقا بالقوارير.

إنني من المعجبين بالأستاذ العقاد، ومن المبهورين بجلال قلمه، وروعة مداده، حتى غضباته في معاركه الأدبية تصيبني منها نشوة غامرة، وهو يهوي على خصومه الأشداء، فيجسد لنا أروع الملاحم وأفخم الخصومات.

لكنني أحزن كثيرا حينما أراه يصب غضبه على امرأة، حتى وإن نالت منه أو خالفته، كان الأحرى به أن يمسك قلمه عن التجريح والتقطيع، ويجعل منها ذلك المقام الذي جعل فيه خصومه من الرجال، أو ينزلها في العداوة ما أنزل فيها ذكور المفكرين، لقد دخل معركة ضد المرأة وكانت ضحيته بنت الشاطئ التي وجه لها كلمة قاسية، سجلتها تواريخ المعارك الأدبية، فظلت معها ولم تفارقها حينما قال عنها: “(إن كاتبة المقال لا أضعها في عالم النساء ولا في عالم الرجال، وإنها مثله الوحيد على تناقض المرأة.) 

بل قال لها : “أنت آخر سيدة يجوز لها أن ترد على ما أكتبه عن المرأة!”

ولا شك أن هذه الجمل توحي بتجريحات عنيفة لشخص بنت الشاطئ كسيدة، والعقاد كان العتب عليه في معاركه أن كل الأسلحة لديه كانت متاحة حتى لو وصل الأمر للتجريس والفضح، ويمكن ذلك أن يكون مقبولا، لكن عند النساء لابد أن نقف.

ولكننا أما حزننا من العقاد، يجب أن نعلن أن الرجل رغم شراسته في الهجوم، وذبحه للخصوم، لم يكن أبدا يمس العرض، أو يقصد الشرف، فما كان للعقاد العظيم، الذي ينظر فكر الأمة أن يهوي إلى مزالق الفجرة الساقطين.

كأني بالعقاد قد ناقد نفسه، وناقض بسلوكه ما يكتبه ويرويه، فها هنا انظر إليه في كتاب (عبقرية الإمام) وهو يتحدث عن سيدنا علي رضي الله عنه فيقول: وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها شيئاً، ثم خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها. قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين . أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع ؟.. فانتهره وهو يقول: ويحك؟.. إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟.

كانت الثورة الفرنسية تشتعل في باريس، بينما الملك لويس ١٦ وزوجته ماري انطوانيت بعيدين في قصر فرساي يحيك المؤامرات ضد الثوار، وحوله جيش كبير يحميه، مستعد أن يفتك بأي ثائر يقترب من الملك، ففكر الثوار واهتدوا إلى فكرة جهنمية، وهي أن ينظموا ثورة نسائية تزحف إلى القصر وتحاول الدخول ليندفع الثوار وراءهم، ويتمكنوا من القبض على الملك، الذي لن يستطيع أن يأمر بقتل النساء، حتى وإن أمر فلن يطيعه الجنود، ليشهروا السلاح في وجه النساء.

ولا يسعني في هذا المشهد إلا أن أسوق تعليقا للناقد الأدبي الكبير رجاء النقاش، يستحق أن يحفظ ويعلق أو يدرس في المدارس والجامعات، ليتعلم الجيل معنى المروءة والشرف ويعظم حرمة المرأة..

يقول النقاش: فليس من الشجاعة ولا الفروسية، ولا العسكرية التي تحترم نفسها، أن يوجه الضباط والجنود بنادقهم إلى صدور النساء، ومثل هذا التصرف لو أنه حدث، يكون في حقيقته عارا لا يمكن أن تمحوه كل مياه المحيطات، ولو أن هذا الفعل حدث، لكان كفيلا بالقضاء على النظام الملكي، لأن فرنسا لن تغفر أبدا للملك وجنوده قتل النساء.

ولكن فرنسا على مر العقود لم تحفظ أخلاقها، وفرطت في أعرافها ومبادئها، فما فعله جنودها في الجزائر يندى له جبين التاريخ.

وبعد ونصيحة مني للكتاب:

إياكم أيها الكتاب والنساء وأعراض النساء، اجمحوا أقلامكم عن النساء، ردوا مدادكم عن عداوتهن، وإن اضطررتم إلى ذلك ، فلا يكون إلا إذا تخطت طورها فانتهكت حد الله، أو دعت لرذيلة وفجور، ولكن لا يفوتكم أيضا أن يكون هذا القتال.. في حدود الأدب والخلق والفضيلة.