هذا مثلٌ يُضربُ فى كوْن الأمور العظيمة لا يقدّرها ويعرف حقيقتها إلا الكبار الذين يبلغون مستواها، وأن الحقير الضئيل لا يدرك سوى عالمه والمحيط الذي يحيا فيه، وأنّ كلًّا ميسرٌ لما خُلقَ له، ومن شذّ هلك، ومن تشوّف لما لم يُخلق له صارت عاقبة أمره خُسرًا.

إنّ مما يجرُّ النكد والبلاء على ابن آدم أنه لا يعترف بجهله، ولا يقنعه عالمه الذي خُلق له، فيشرئب بعنقه متطاولًا يريد الصعود إلى حيث حتفه، وهذا من الكبر والبطر المذموم، ولا يعلم أن في الجهل الذي رُكِّب فيه مزية كبرى وفضيلة عظمى، فهو ليس مَلَكًا لا يخطئ، بل هو بشرٌ يصيب ويخطئ، ويحلم ويجهل، ولو لم يدرك ذلك ساء فعله وأدخل على نفسه الهمَّ والغمَّ.

إن حولنا من العوالم ما لا يعلمه إلا الله تعالى، يروننا من حيث لا نراهم، ولو رأيناهم لفزعنا بل لشِبْنا أو مُتنا فرقًا منهم؛ من ثم ليس من حقنا، بل ليس من مصلحتنا التطلع إلى رؤية هذه العوالم، أو حتى التفكّر فيها؛ لأننا لن نصل إلى نتيجة، وهل كان يعلم الجنين مقدار العالم الذي سينزل فيه وانفساحه بتلك الصورة المرعبة إذا ما قارنه بذلك العالم الضيّق الذي كان يقطنه؟! إن عقولنا القاصرة لا تستوعب شيئًا من ذلك أبدًا، بل لا يخطر عليها من الأساس؛ وهذا عين ما قيل في الجنة التي بها: ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.

لمّا تطلع موسى (عليه السلام) إلى رؤية ربه قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، قال الله تعالى: (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، علم الله ما في نفس موسى من التشوّف، فجعله أمام الأمر الواقع؛ إذ الكلام سيخلق جدلًا لا طائل منه، والله يعلم كذلك أن الجبل لن يستقر مكانه حال تجلّيه سبحانه وتعالى عليه، لكنها الطريقة العملية لإقناع موسى بعظمة الرب وقدر قدسيته وجلاله؛ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)، علم موسى أن تلك جهالة منه ما كان له أن يقع فيها، فتاب إلى الله وأناب: (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، فتاب الله عليه: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف: 143].

الشاهد هنا أن الإنسان قد يهرف بما لا يعرف، وإذا لم يُعمِل عقله ورّط نفسه، وربما بلغ الهلكة. يجب أن تكون التصورات بحجم أصحابها؛ لأنه إن لم يفعل ذلك فهو مخادع، كالنملة تريد أن تسابق الفهد أو تصارع الأسد.

في عالمنا المعاش كثُر النمل من هذا النوع فنعيش لذلك سنوات خدّاعات كما تنبأ المعصوم : «سيأتى على الناس سنوات خدّاعات؛ يصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة».

وتخيل النملة التي تتعثر في ذرة التراب تثنى عطفها وهى تستعد لمبارزة فيل، وتخيل في الوقت ذاته حُقراء يتقدمون وعظماء يؤخّرون، ونفايات مكرّمة وكفايات مهانة.

وهذا كله من أمارات الفساد في الأرض، وقد توعّد الله أن يذيق صنّاعه ما فعلوه، بل سيتعداهم إلى الجميع، فإن السيئة تعمُّ، ثم ينجّى الله المؤمنين إذا صاروا عنده في موقف الحساب؛

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)

[الأنفال: 25].

من الهيثم زعفان

رئيس مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية