كنت في صغري من مشجعي كرة القدم المتعصبين، وبعد فترة تخليت تمامًا عن ذلك التعصب لدرجة أني لم أعد أعرف أي أحداث عن تلك اللعبة ولا مبارياتها ولا لاعبيها، وأصبحت غريبًا عنها تمامًا.

 كرة القدم لعبة رياضية من يلعبها هو المستفيد الأوحد، بدنيًا وماديًا. لكنها في نفس الوقت تعكس في أساسها مفاهيم وأخلاقيات ضد منطق الحياة في بعض جوانبها.

 كرة القدم لا تستطيع أن تحقق أهدافها كاملة إلا من خلال إحراز الأهداف، ولن يستطيع فريق تحصيل البطولة من دون أهداف.

اللعب النظيف وحده لا يحقق نتيجة ولا يحرز بطولة وليس معترفًا به إجمالا، لم نسمع عن فريق حقق بطولة بلعبه النظيف ومن دون إحراز أهداف.

 ومن هنا يجب على الفريق أن يحرز أهداف دون النظر إلى وسيلة تحقيقها، وحتى يمكن مشاهدة بعض اللاعبين باللجوء إلى الخداع من أجل إحراز الأهداف والحصول على البطولة، الغاية هنا تبرر الوسيلة.

وكذلك السياسة في غالبها تحتاج إلى كذب، وخداع، ومراوغة، وتنازلات، وموائمات من أجل الحصول على المكاسب، والمناصب، وعدم الصدام مع الخصوم لتحيقق الأهداف بأية وسيلة. وهذا يدفعنا إلى التفرقة بين الفوز والانتصار أيضًا.

الفوز هو تحقيق إنجاز أيًا كانت الوسيلة، والنصر هو ارتقاء القيم، والأخلاق، والمبادئ، والثوابت، ورسوخها بعد جهد أجيال، وبذل، وعطاء متجدد، وتضحيات، ونجاحات، وإخفاقات، وصعود، وهبوط.

لم ينتصر رسول الله في كل معاركه، ولم يكن طريقه سهلًا ممهدًا، وقد عرضت عليه كل الطرق الملتويه للتسريع في تحقيق إنجاز سريع،

 وأن يتولى الحكم عليهم في مقابل التنازلات الممكنة والمتاحة والتخلي حتى عن بعض أهداف ذلك الطريق الذي جاء به، أو خلطه بمبادئ أخرى ويندمج معها، لكنه صلى الله عليه وسلم أدرك خطط هؤلاء جميعهم فرفضها جميعها.

وكان تمسكه بأخلاقيات وأدبيات الإسلام كاملة سببًا مباشرًا في تقاطر الابتلاءات من كل اتجاه على صحابته الكرام وأتباعه.

 ولم يتنازل رسول الله عن طريقه رغم رؤيته للمعذبين في مكة، لكنه كان يقول لهم (صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

كان يستطيع أن يدعو لهم وتتحقق الدعوة ويستجاب له كما جاءه أحد الصحابة الكرام: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) فقط دعوة منك يارسول الله ويستجاب لك!

فكان رده: «ولكنكم تستعجلون».. كانت رسالته واضحة الخطوات محددة المعالم، ولكننا نستعجل.

وفي ظل هذا الاستعجال المقيت نرتضي بتحقيق أي مكاسب أو فوز حتى لو تخلينا عن مبادئنا ودعوتنا وطريقنا. نرتضي الذل في مقابل تحقيق طموحات التافهين أو المتخاذلين، أو عديمي الرؤية، أو المحبطين،

أو الذين طال عليهم الأمد.

لن يكون البناء سهلًا، ولا النصر، والتمكين سهلًا، ولن يتمكن الضعفاء من تحقيق أهدافهم ولا المتعجلين كذلك. علينا أن نفهم فلسفة كرة القدم، وعلينا أن نستوعب تعقيدات المشهد السياسي العالمي البئيس وأسسه ومبادئه، وعلينا كذلك استيعاب طريقنا وفهمه جيدًا، ومتطلباته، وتضحياته، وقوامه، وأخلاقياته، ومبادئه.

الدعوة جاءت لتغيير مفاهيم وأخلاقيات السياسة لا أن تختلط به وتندمج فيه وتذوب وتذهب. وجاءت كذلك لتنظيف اللعب، وجعل الرياضة أساسها الأخلاق والقيم والمبادئ لا الانتهازية وتبرير الوسيلة للفوز.

وإذا نظرنا إلى كرة القدم من زاوية أوسع فإننا نجدها دعوة للتواصل بين الشعوب علي اختلاف مشاربها وألوانها وأيدلوجيتها، وأنه من الممكن أن يلتقي الجميع في إطار منضبط من القواعد المتوافق عليها لتحقيق أهداف التعايش السلمي والحضاري بين كافة الشعوب

رغم اختلاف ثقافتها وديانتها على أرضية خضراء فيها

من إشارة إلى النماء ومحاربة التصحر الفكري والحضاري تحت قوانين متسامحة ومنضبطة في نفس الوقت،

بحيث لا يتعدى أحد علي غيره متسببا في قتله أواستباحة دمه ،ولا يمنع ذلك التقارب والتفاهم والاندماج من التنافس أيضا ببذل الجهد والعرق مع احتكاك بسيط بالآخر يتم ضبطه اذا تجاوز الحدود.

لما اشتد الكرب على المسلمين في غزوة الخندق، ورأى رسول الله أن العرب قد اجتمعت على قوس واحدة، ورمت المسلمين بسهم واحد، أراد حلحلة الأوضاع وفاوض غطفان على الانسحاب من المعركة والرجوع في مقابل الحصول على ثلث ثمار المدينة، وأوشك رسول الله، ، على تنفيذ ذلك الاتفاق،

ولكن قبل أن يوثق ذلك الاتفاق، استدعى السعدين، سيدنا سعد بن معاذ، وسيدنا سعد بن عبادة لمشاورتهم في الأمر، فسألوا رسول الله هل هذا وحي أم أمر تصنعه لنا؟ فقال بل أمر أصنعه لكم

إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.

فقالوا يا رسول الله: هؤلاء لم يطمعوا في أن ينالوا من ثمار المدينة إلا قرى (ضيافة) أو بيعًا، عندما كنا في الجاهلية، أما وقد أعزنا الله بك نعطيهم أموالنا؟! والله يا رسول الله لن نعطيهم إلا السيف، ومزقوا الكتاب ولم تفلح غطفان في الاستيلاء على ثمار المدينة.

وكانت غزوة الخندق، من دون قتال، كانت حدًّا فاصلًا بين مرحلتين، ولم يكن مطلوبًا من المسلمين غير الثبات، ولم يكن بأيديهم فعل أي شيء غير الثبات،بعد جهد كبير في تنفيذ فكرة فردية(كنا اذا حوصرنا تخندقنا) فكان حفر الخندق.

نزلت آيات القرآن الكريم لوصف المشهد السياسي في أرض المعركة، والزلزال الشديد، والخوف يحيط من كل جانب، لدرجة عدم تلبية أمر رسول الله فيمن يخرج ليأتي بخبر القوم، ويضمن له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العودة، والجنة.

زلزال شديد وحصار رهيب زاغت معه الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ظنوا بالله الظنون.

كان عنوان المعركة هو الثبات في الميدان، ولم يكن هناك في الآفاق القريبة من بشريات للنجاة من موت محقق، وفناء لجيل بكامله، ودعوة راحت من أجلها نفوس كرام.

لكن عندما تعجز الأسباب عن حل المعضلات، ويتعلق الناس برب السماوات، تأتي بشائر الانتصارات، عندما تتوقف الحسابات وتعجز القدرات، وتنتصر إرادة الثبات وينقلب الحال، ليعلن رسول الله قائلًا: الآن نغزوهم ولا يغزونا.

هناك أوقات فاصلة في تاريخ أمتنا، تنقلب فيها الأحداث رأسًا على عقب، من دون مقدمات، أو حسابات، وعندما يستنفد الجميع طاقاته وقدراته، فليس عليهم أكثر من ذلك، وليس مطلوبًا منهم غير ذلك.

ربما تغيب تلك الحقائق عنا يومًا ما، أوتنسينا كثرة الأحداث الدامية التي مرت بنا، طبيعة المعركة وأطراف الصراع، ومدى شراسة المواجهة، وأنها معركة جدية

ليست صراع سلطة أو حكم، بقدر أنها صراع محموم بين الخير والشر، ونحن في تلك المعركة علينا استلهام المواقف من عمق تاريخنا المشرق، ودارسة وقائع في التاريخ نستمد بها طاقتنا في القدرة على الصبر والثبات، وتحليل الأحداث إقليميًّا ودوليًّا.

واستيعاب الأدوار والقدرة على المناورة وتقديم العون للقيادة عندما تتقدم للمفاوضة من باب تخفيف الضغوط الدولية والإقليمية والمحلية، على الجميع أن يراجع المواقف ويصححها، وإذا رأى من قيادته عزمًا على إبرام أمر من الأمور من باب الشفقة وتقديم ما من شأنه إحداث تراجعات بعد مكاسب قادمة فعليه حماية ظهر قيادته بإعلان ثباته، ورفضه للتنازل عن الثوابت، ومن موقف السعدين (سعد بن معاذ)، و(سعد بن عبادة)، وجب على الجميع أن يقف موقفهما.

إن ما تتعرض له جماعة الإخوان المسلمين اليوم لهو محاولة لضرب الإسلام تحت غطاء ضرب جماعة الإخوان المسلمين، وإن العالم كله يجتمع اليوم للإجهاز على بقايا الروح التي تسري في جسد الأمة الإسلامية والعربية.

وإن محاولات الرضوخ والقبول للأمر الواقع، والبحث عن حلول محتملة، استجابة لضغوط الواقع، ربما يكون فيه انتكاسة كبرى.

الاعتماد على حسابات واعتبارات مادية ربما يكون من الخطأ الكبير الذي يرتب آثارها العكسية والكارثية، لم يتبقى لنا في هذا الصراع بين الخير والشر غير لحظات من الثبات، وبعدها ننطلق في الآفاق معلنين: الآن نغزوهم ولا يغزونا.

فهل نستطيع الثبات ولا نعطيهم من ثمار المدينة ما يستحقون؟.

إذا كنا نستسلم لقواعد كرة القدم وضوابطها ولا نستطيع تجاوزها أو مخالفتها، وهذا في ميدان اللعب، الذي تحول من منطقة اللعب إلى الجدية الحازمة والجازمة،

 بينما نستطيع بكل بساطه وأريحية ويسر التفريط في القواعد المنظمة للأعمال الكبيرة الأكثر نفعًا والأكثر أهمية وخطورة، فإننا قد تحولنا بأفكارنا وخواطرنا

واهتماماتنا تحولا خطيرا يجب النظر والتفكر العميق والفهم الدقيق للتأثير الناتج عن ذلك التحول المرتبك الذي وضع قواعد الجد في تنظيم اللعب بينما يتبع منهج الهزل في تنظيم الجد.

لابد أن نتعلم الانضباط الحازم والقناعة التامة بضرورة العمل الجماعي المنضبط الذي تحكمه أسس وقواعد وقوانين، حتى يتم ضبط الحركة والإدارة في نظام عام متجرد ،يمكن من خلاله استثمار الطاقات والإمكانيات والإبداعات، مع إدراك تام بأن العشوائية واللامسؤلية والنزعة الفردية لا تتقدم بها الأمم والجماعات والأفراد.

مع التسليم بإمكانية ظهور المبادرات الفردية الواعية التي تخرج في وسط الفريق بحلول فردية خارج الصندوق بمهارة وقدرة على دعم الفريق وتحقيق الانتصار ولن يكون فوزا بل انتصارا توفرت له كل الإمكانيات لصناعته.

إذا أراد أصحاب الحق الانتصار لفكرتهم عليهم الوقوف عند كل حدث جلل يمروا به وإعادة قراءته ومحاسبة الجميع بما يقتضيه الحال من محاسبة ومراجعات

واستفادة من التجارب، وتصحيح المفاهيم وإعادة تشكيل الوعي السياسي، والدعوي، والفكري لأبناء الحركة الإسلامية، وتجديد المعاني التي سحقها النسيان وتوريث صحيح للرسالة كاملة دون تحريف أو نقصان.

(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

من سعيد المرتضي سعدي

باحث الدكتوراه، جامعة شيتاغونغ الحكومية، شيتاغونغ، بنغلاديش مدير، مدرسة الحضارة الإسلامية.