أعترف بأني لست من هواة شعر العامية، ولا صبر لي على قراءته. كما أعترف بتواضع معلوماتي عن الشاعر الراحل محمود بيرم التونسي (1893- 1961م)،

وإنْ كنت أعرف كسائر أبناء جيلي أنه كان من أشهر مؤلفي الأغاني في القرن الماضي، وذلك من خلال ما كنا نسمعه من أجهزة الراديو ونحن صغار،

وأنه كان من أبرع الزجالين في مصر والعالم العربي، حتى ذكروا أن شوقي رحمه الله كان يقول: (لا أخشى على شعر الفصحى إلا من بيرم التونسي). 

اقطعوا إيد الحرامي

لكن دفعني للكتابة عن بيرم أني اطلعت مؤخراً على قصيدة له بعنوان: (اقطعوا إيد الحرامي)، ضمن مجموعة مختارة من شعره نُشرت في مكتبة الأسرة سنة 1996م.

وقد لفت انتباهي في تلك القصيدة اعتزاز بيرم بالشريعة الإسلامية وأحكامها،

وأنه يتحدى -إذا قطعنا يدَ سارق واحد- أن يجرؤ أحد على السرقة بعد ذلك،

بل يقول: إنه على استعداد أن يُحبس أو يُشنق إنْ بقي هناك سُرَّاق بعد إقامة حد القطع مرة واحدة، وذلك حيث يقول :  

اقطعوا إيد الحرامي ** بس نوبه ..  واحبسوني

وان سرق واحد طماطمه ** ولا طوبه .. اشنقوني

الحرامي لما يسمع  **   بالساطور يفزع ويرجع

يشتغل ويكون عصامي ** اقطعوا ايد الحرامي

كما يبدو من كلامه أيضاً أنه كان يدرك جيداً عوار القوانين الوضعية، التي يحاكم بموجبها اللصوص، وأنها لا تفيد شيئاً في منع السرقة والفساد:

الحرامي تتركوه يسرق **   ويهرب في الحواري

أو بصدفه تحبسوه ياكل ** ويشرب ..سم هاري

من جيوبنا أو دمانا **  اللي فايضه من الخزانه

و يحامى له  المحامي **  اقطعوا إيد الحرامي

كما يتهكم على تلك الأنظمة التي تحبس السُّرَّاق،

وتُنفِق في سبيل ذلك المبالغ الطائلة التي كان يمكن الاستفادة منها في الزراعة ،أو في عمل مشروعات لتشغيل العاطلين :  

ع البوليس والسجن كام **مليون بندفع – احسبوهم

وفروهم للسماد والرى ** أنفع …..  وفروهم

وافتحوا بيهم مشاغل ** للى عاطلة واللى عاطل

يكفي يا ناس التعامي   **   اقطعوا إيد الحرامي

على أن أحسن أبيات تلك القصيدة في نظري،

هي الفقرة التي يتحدث فيها بفخر واعتزاز عن شريعة الإسلام الغراء،

داعياً أهلَ الإسلام إلى تطبيق أحكامها، غيرَ عابئين باعتراضات الغربيين،

الذين يعتبرون أن أحكام الحدود وحشية لا تناسب العصر، مبيناً أن على من يسكن بوادينا أن يخضع لشريعتنا:

عندكم يا مسلمين    **    أحسن شريعة طبقوها

حا تقول الافرنج دي ** أحكام فظيعه، ما يقولوها

اللي يسكن في وادينا    **   يرضى بالجاري علينا

انجليزي أو أنامي     **        اقطعوا إيد الحرامي

وبعد: ألست ترى معي أيها القارئ الكريم أن هذا البيان من بيرم رحمه الله، خير وأقرب إلى منهج الشرع الحنيف، من كلام بعض علمائنا الرسميين الذين صار همهم تبرير الواقع والدفاع عنه بشتى السبل.

مفتي الديار المصرية.. وتطبيق الحدود الشرعية

واقرأ معي هذا التصريح الذي أدلى به مفتي الديار المصرية د. شوقي علام في أحد حواراته التلفزيونية، بتاريخ 24 / 3/ 2017 -والحوار موجود بطوله على موقع دار الإفتاء المصرية-

وفيه يقول فضيلته في معرض تبريره لعدم تطبيق الحدود الشرعية في بلادنا: (إن تطبيق الحدود لابد فيه من نفي الشبهات تمامًا، ونحن في زمان لا نطمئن فيه إلى أن يتم نفي جميع الشبهات لأنها أصبحت محيطة بكافة القضايا، ومن الصعب الاطمئنان لشهادة الشهود في الكثير من القضايا.

وأضاف أن الشريعة الإسلامية تقصد الستر ودرء الحدود بالشبهات، والقاضي يجب أن يتحرى تمام التحري لإنزال الحد والعقوبة إلا بعد درء الشبهات، فالقاضي أو المفتي عندما يريد أن يعطي حكمًا يأتي للأحكام التكليفية ويسقطها على أرض الواقع، ولابد من الربط بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي ،وهو عسير في مسائل الحدود. وهنا ننتقل للعقوبات التعزيرية).

وأقول: يا فضيلة المفتي،

إن الكلام هنا ليس عن القاضي الذي يجب عليه -كما قلتم- أن يتحرى تمام التحري حتى لا ينزل العقوبة إلا بعد درء الشبهات.

وإنما كلامنا عن النص التشريعي الذي يجب أن يكون موافقاً لشريعة الله كما نزلت على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك ينظر القاضي المؤهل شرعاً (لا قضاةُ هذه الأيام الذين لا يحسن بعضهم قراءةَ آية من كتاب الله) في مسألة ثبوت التهمة من عدمها . أما أنْ نغيرَّ حكم الله من أجل صعوبة إثبات التهم.

فهذا في الحقيقة عبثٌ بالشرع المطهر، وفيه معنى الاستدراك على الله عز وجل، وكأنكم تقولون له سبحانه: إن شريعتك كانت تصلح في العصور السابقة، ولكنها لا تصلح في عصرنا هذا لعدم الاطمئنان لشهادة الشهود ،أو لغير ذلك مما ورد في حوار المفتي.

كما أنه من المعلوم أن القانون في مصر يُلزم القضاة بإصدار أحكامٍ أشدَّ وأقسى من كثير من الحدود، وذلك مثل عقوبة الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة ، اعتماداً على شهادة الشهود الذين تقول إنه لا يوثق بهم.

أفتتورعون عن الحكم بجلد شارب خمرٍ أربعين جلدةً أو ثمانين جلدةً، ثم تبيحون لأنفسكم الحكم على أناس بالقتل اعتماداً على نفس منظومة التقاضي التي لا تخلو حسب قولكم من الشبهات؟

التصديق على أحكامٍ بالإعدام في حق المئات!

وأنت بنفسك يا فضيلة المفتي قد صدَّقت على أحكامٍ بالإعدام في حق المئات من أبناء الوطن، في قضايا التظاهر وغيرها،

وكنت تذكر في حيثياتك أن ذلك الحكم هو من باب القصاص، أو من باب حد الحرابة والإفساد في الأرض،

فلِمَ لمْ ترفض التصديق على تلك الأحكام، ما دمتَ ترى أنه لا يوثق بشهادة الشهود، وأنه من العسير في عصرنا الربط بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي في مسائل الحدود؟

ثم إنه إن صح أن يقال مثل هذا الكلام في شأن القوانين التي تعاقب على بعض الجرائم بعقوبات مخالفة للعقوبات الشرعية،

فماذا أنت قائل في الأمور التي جرَّمها الشرع الحنيف، وأمر بالعقوبة عليها،

ومع ذلك لا يعتبرها القانون الوضعي جريمة أصلاً ؟.

فشرب الخمر مثلاً لا يعتبر في نظر القانون جريمةً إلا إذا ترتب عليه السُّكْر في مكان عام، وذلك طبقاً للمادة السابعة من القانون رقم 63 لسنة 1976.

فمن شرب الخمر ولم يسكر فلا عقوبة عليه .وكذا من سكر في بيته وليس في مكان عام لا عقوبة عليه.

وذلك لأننا نعلم أن القاعدة عند أهل القانون أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.

وكذلك الحال في جريمة الزنا

فإن قانون العقوبات المصري يخلو من نص يجرِّم الزنا إذا وقع بين غير متزوجَيْن، وكان برضا المزني بها، وقد جاوزت الثامنة عشرة.

وعليه فلا يعتبر ذلك جريمة، ولا عقوبة فيه لا بحد ولا بتعزير، مع أنه في حكم الشرع جريمة فيها حد شرعي.

وكذا إذا وقع الزنا من الزوج في غير منزل الزوجية فإنه ليس بجريمة ولا عقوبة عليه؛

لأن المادة (227) من قانون العقوبات المصري تنص على أن:

(كل زوج زنى في منزل الزوجية، وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر).

فأين ذهب تعزيركم يا دعاة التعزير؟

الحقيقة أني لا أجد تعليقاً على مثل هذه التبريرات العجيبة خيراً مما قاله بيرم في آخر تلك القصيدة، مخاطباً الأزهر ورجاله :  

فين يا أزهر فين رجالك ** فين أسودك.. واقتدارك

ياللى حكم الشرع من ** أسباب وجودك واشتهارك

اكتفيتم بالوظايف     **      والمهايا والتحايف

والتشامخ والتسامى    **      اقطعوا إيد الحرامى!

رحم الله بيرم التونسي وغفر له، وعافانا وإياكم من المداهنة، والمجاملة على حساب الإسلام وشريعته.

من د. زينب عبد العزيز

أستاذة الأدب الفرنسى وتاريخ الفنون بالجامعات المصرية