[[حسن العهد من الإيمان: الكريم الوفي لا ينسى صاحبا آزره قديما ولو تفرقت بهم الديار وناءت الأقطار]].

قرأتُ قصّة معاصرة أثارت بي شجوناً وكلاماً كبيراً وجدتُ نفسي قد جاشت به ونطقت وكتبته على عجل،

والقصة قصيرة وهي أنّ الممثل جورج كلوني منح 14 من أصدقاءه 14 مليون دولار نقداً،

وقد وضع النقود في 14 حقيبة سفر وقدمها لهم كهدية ووفاء لمن وقف بجانبه وساعده وأقرضه المال عندما كان بحاجة قبل الشهرة !

وأعظم من ذلك أن رَسولُ اللهِ رأى يوماً حسَّانةَ المُزنيَّة رضي اللهُ عنها،

وهي عجوزٌ مكيَّة، كانت صديقة للسيدة خديجة رضي الله عنها ولم يرها منذ زمن، فأقبل عليها فسألها:

«كيف أنتم؟ كيْف حالكم؟ كيف كنتُم بعدنا؟»

فسُئل عنها، فقال:

«إنها كانت تأتينا زمنَ خديجةَ وإنَّ حُسن العهدِ من الإيمان».

وكان محمد بن واسع رحمه الله يقول: «لا يبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو لساعة، وكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري ويقول: قد كان لها معنا صحبة».

ومن المواقف العظيمة أنّ أ.طارق السلمان يُحدّث عن قصّة وقف عليها بنفسه ويعرف شخصياتها تماماً ذكر عن شاب خرج للابتعاث وكان على قد حاله،

فأتاه شخص من أقاربة وبدون مناسبة وأعطاه (15.000) ريال فزعة منه لتدبير أموره…

دارت الأيام وعاد الشاب وحصل على ظائف مرموقة، في المقابل أدركت قريبه جائحة فتحمل مبلغا ضخما.. فدفع عنه (900.000)لوجه الله..!!

إن من مكارم الأخلاق،

التي يُكتشف بها معادن الرجال، وتُصقل بها حقائقهم : الوفاء للصديق القديم؛ ممن تصاحبا وتصابحا ببعضهما،

حتى صارا يغدوان ويروحان في كثيرٍ من الجهات وهما سويّة، وجرى بينهما مواقف وعيش وملح

وإدام ومرارة وسعادة، وكل ظروف الحياة في زمنٍ قديم..

قد تُلقي بهما أقدار الرحمن في أماكن نائية في وقتٍ ما؛ فيطفق كلٌ منهما يعمل في عمل، وينهمكان في لُجّة الدنيا، ومعركة الحياة، وخضم الحاضر؛

ولربما سمع أحدهما بالآخر بعد مدة طويلة عن حالة له صعبة، أو أنّ أحدهما أغناه الله من واسع فضله،

والآخر لا يزال يعارك الدنيا بما فيها من بؤس حتى كاد أن تدب فيه عقارب اليأس!

فيتذكر من أغناه الله وأكرمه من واسع فضله أخاه الذي يعاني الأمّرين، أو يفتقد نِعماً يرفل بها ذاك فيما صاحبه تركله صنوف العذابات الدنيوية بين قهر وفقر ومرارة،

وحين يتذكر ذلك يعلم سر قوله تعالى : {وما بكم من نعمة فمن الله}

فيقوم مسانداً لصاحبه رافعاً يديه إلى السماء أن يكرم الله صاحبه، ويحاول أن يخفف عنه بما لا يشعر به حتى يكرمه بشيءٍ مما أغناه الله به…

ويعلم أن صديق القدم كان صاحباً لا لأجل مصلحة ولا حظٍ دنيوي، وهو لم يأته اليوم يطوف حوله متزلفاً متملقاً؛

بل يعلم عنه نزاهة وصدق معدن وشرف أصل؛ ويتذكر مواقفه التي وقف بها معه قديماً فلا ينساه.

يقولُ أكثم بن صيفي: أحقُّ مَن يشرِكُكَ في النِّعَمِ شركاؤك في المَكارِهِ.

إن الدنيا لا تغيّر الكرام، وأنّ من يتذكر صاحبه في موقفٍ قد سانده فيه وساعده وصرف عنه قديماً شدّة لحقت به،

لا ينساها الصديق الوفي، فهنا القصاص بالخير، والمجازاة بالفضل، ذلك أنّه لن ينسى من امتدت له يد المعونة وهو الآن في أشد ظروف الحياة طلباً للمعونة لكنه يأبى بكرامة نفسه أن يقف طالباً..

يقول حاتم الطائي:

شربنا بكأس الفقر يوما وبالغنى

وما منهما الا سقانا به الدهر

فما زادنا بغيا على ذي قرابة

غنانا،ولا أزرى بإحسابنا الفقر

وصدق دعبل الخزاعي وقيل إنّه من قول إبراهيم بن العباس الصولي:

أولَى البرِيَّةِ طرًّا أنْ تواسيَهُ

عندَ السُرورِ الذي واساكَ في الحزَنِ

إنَّ الكرِامَ إذا ما أيسَروُا ذَكرَوُا

منَ كانَ يألَفُهُمْ في المنزلِ الخَشِنِ

إنّ الصديق من أشد الناس معرفة بحال صاحبه يوم أن كان فقيراً أو ضعيفاً أو مهاناً أو ليست له قيمة؛ فكلٌ منهما منكشف متكشّف أمام الآخر، فمهما حاولت الأيام أن تستر ظاهره؛ فإن الحقيقة يذكرها صاحبه ويعيها؛

ولهذا تذكر كتب الأدب أنّ أعرابياً ذكّر صديقه القديم الوالي معن بن زائدة بحاله فيما مضى حيث قال له:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة

وإذ نعلاك من جلد البعيرِ!

فسبحان الذي أعطاك ملكاً

وعلمك الجلوس على السرير!

فقال معن:سبحان الله! وكأن الأعربي أراد اختبار حلمه.

وتتحدث كتب التاريخ أنّ الإمام الشافعي لقي أعرابياً فأكرمه أيما إكرام، فسئل عن ذلك فقال: تعلمت منه بمكة معنى كلمة من لغة العرب:

(وإن الكريم من راعى وداد لحظة وتعليم لفظة).

سلاماً ومحبة لكل صديق لم تغيّره الرّتبُ ولا المناصب ولا المراكب ولا الأموال…