أربعة أسماء تشرف على الدنيا من مدْرَجة الكمال البشري الأسنى في جانب النساء، أسماءٌ عُلوِيَّةٌ مادَّةُ خَلْقها الأرضُ وموطن استمدادها السماوات العلا.

مريم بنت عمران: أمُّ نبي، من أهلِ بيتٍ صالحين.

لو تصفَّحْتَ أذهانَ الناس، لَوجدتَ صورةَ مريم خلْقًا سماويًّا، كأنها إذ تنتبذ من أهلها مكانا شرقيا، يُفتحُ لها بابٌ إلى السماء، تحلِّقُ على جناحَيْ غمامةٍ بيضاءَ كالقطن، ترتقي حتى تتصل بالملأ الأعلى، يأتيها رزقُها لا كأرزاق الناس، تحملُ وتَلِد لا كالنساء، أطهَرُ من ماء المزن، وأبعَدُ عن ما يسوءُ من الثريا، نوَّه اللهُ بها في الكتاب المجيد مرارًا، باسمها ووصْفها، ورفع لها ذكْرَها واصطفاها، وجعلها أمًّا لأحد أكرم الأنبياء وأولي العزم من الرسل، نبيٌّ لا ينالُه الشيطان ولا يطمع منه بشيء، لا يصيب الذنوب كما يصيبها بنو آدم، حتى وفاتُه ليست كسائر الناس.

آسية امرأة فرعون: مربِّيَةُ نبيٍّ، وامرأة جبارٍ عنيد.

امرأةُ فرعون.. امرأة من أفراد الدهر، شُهِرَت بزوجها أكثر من اشتهارها باسمها ونسبها، زوجُها أطغى الناسِ وأعتاهُم وأعظمهم كفرًا بالحق، ما كان له على دينها الراسخ وقلبِها النقيِّ من سلطانٍ، نشَّأَتْ نبيَّ اللهِ موسى الكليمَ الوجيهَ أحد أولي العزم من الرسل في بيتِه، وأحبَّتْه وكانت له أمًّا رؤومًا على رغم أنفِ الطاغي ومَلئِه، تسلَّطَ على جسدها الغضِّ بالعذاب والتنكيل، فكأنما كانت سياطُه حُليًا تُحَلَّى بها، لا تزدادُ إلا إيمانًا ويقينًا، لم يزل بها تعذيبًا ونكالا حتى ارتَقَتْ إلى أعلى عليين، بنى الله لها عنده بيتًا في الجنة، وأحَلَّها محلَّ الرضوان والكرامة الأسنى، وسُطِّرَت في مصافِّ الكُمَّل من البشر، وهوى زوجُها إلى أسفل سافلين، وحاق به سوء العذاب، فهي في الدرجة العليا من النعيم، وهو في الدرك الأسفل من الجحيم، فيا بُعد ما بينهما!

خديجة بنت خويلد: امرأة نبي، وأمُّ أبنائه.

أما خديجة وما خديجة، تلك التي لم يأتِ قبلَها ولا بعدَها امرأةٌ مثلها، كانت والناسُ في عمايةِ الجاهلية وضلالتها امرأةً شريفةَ القدْر، طاهرةَ النفس، وافرة العقل، ثاقبة النظر، لا تألو فيما اختارتْ لنفسها خيرا، وكان من ذلك الخير الذي اختارته لنفسها باختيار اللهِ لها: أن عرَضَت نفسَها على محمد أحسنَ العرضِ وأجملَه وأعَفَّه، وكانت له زوجًا ونصيبا، فلا واللهِ ما كان على ظهر الأرضِ بيتٌ أهنأَ من ذلك البيت، ولا كانت امرأةٌ خيرًا لزوجٍ منها لحبيبها ، كانت ردءَه ووزيرَ صدقٍ له، وكانت كنفَه وستره، وكانت معينه ونصيره، وكانت يدَ الرحمة والعطف التي تحنو عليه إذا مسَّهُ مِن قومِه أو من ملمَّاتِ دهره شيء، كانت له نفسا وروحا وقلبا، ومالا ومتاعا، حسبُها أنها أول الخلق إيمانا به، بل ومِن وراء ذلك أنَّ بها ثبَّتَ اللهُ جنانَه ووطَّدَ أركانه لمَّا عاد إليها فزِعا ترجف بوادرُه مما لقيَ من الوحي أول مرة، فانطلقتْ به إلى رجل عالِم بالنبوات، لم تذهب به إلى كاهن أو راقٍ أو شيخٍ، لأن يقينًا رسخ في نفسها رسوخ الجبال أن هذا نبيُّ هذه الأمة، ثم لم تزل معه خيرَ حليلةٍ وأبَرَّ زوجٍ، حتى اصطفاها اللهُ لدار كرامته، وبنى لها بيتًا في جواره من قصبٍ، لا صخب فيه ولا نصب، إذ كانت حازت قصب السبق إلى الإيمان وحُسن الصحبة، ولم تصخب على زوجها ولم تُنْصِبْهُ يومًا من دهرها، لقد بقيَت زمانًا طويلا هجِّيرى فؤاده، وسميرَ خاطره، تغارُ منها السيدة الحسيبة الحبيبة عائشة وهي لم تدركها ولم تكنْ من ضرائرها، فيخبرها النبي أن الله لم يبدله خيرًا منها!

فاطمة بنت محمد ﷺ: ابنة نبي، وأمُّ أسباطه وذريته إلى ما شاء الله.

أما البضعة النبوية والجهة المصطفوية، والسيدة الزهراء البتول، فاطمة بنت محمد ،

فأيُّ فخرٍ يُفخَر به أعظم من أن يقال: بنت محمد ! ثم هي حليلةُ ابن عمه السيد الجليل، ووالدةُ أسباطه السادة الأكرمِين، وابنةُ خديجة أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين،

فمِن أين تُسبَق بمجد، وأنَّى تُلحَق بفخر! ناهيك من امرأة كانت أحبَّ بنات رسول الله إليه، وأقربَهن به شبهًا، في هيئتها ومشيتها، وفي دَلِّها وسمْتها،

وحسبُك من ابنةٍ كان أبوها وهو سيد الخلق وإمامهم يقوم إليها ويقبِّلُ يدَها، وكافيكَ من سيدةٍ كانت هي وأمُّها المرأتيْنِ الوحيدتيْن في أمةٍ واحدةٍ ودهرٍ واحد، اللَّتَيْنِ حازتَا وسامَ الكمال البشري،

وفازتا بلقب «سيدة نساء العالمين»، جنبا إلى جنبٍ مع مريم وآسية، بل كان من أواخر البشارات النبوية= أنها تكون سيدة نساء أهل الجنة، بلفظٍ يوحي أنها لم تزل ترتقي في مدارج الكمال حتى بلغت ذروتها وفاقتْ نساءَ العالمين قبلها وبعدها!

على هؤلاء النسوة الجليلات الكريمات سلام الله ورحمته وبركته ورضوانه.

من د. جمال عبد الستار

الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة