رَحَلَ من يومين أحدُ المنشقين عن جماعة الإخوان، وكان يومًا ما ملء السمع والبصر، متحدثًا إعلاميًّا لهم فى الغرب، ومستشارًا سياسيًّا،

ومندوبًا عنهم فى الأحداث، ورسولًا إلى الدول والزعامات.

رحل الرجلُ ولم يرحل بعدُ الجدلُ الذى خلّفه رحيلُه؛ ما بين داعٍ عليه، شامتٍ فيه، جاحدٍ لما قدّم للدعوة؛ ومترحِّمٍ عليه،

مقدّرٍ فضائله السابقة، متناسٍ تحوُّله ومسارعته فى  الانقلابيين يخشى أن تصيبه دائرة.

 وأنا واحدٌ من مبغضى هذه الطائفة، المشفقين عليهم فى الوقت ذاته؛ لأنى لا أودُّ أن يموت أحدُهم وهو على هذه الصورة من النكسة والخذلان،

وودتُ لو خُتم له وهو مرابطٌ على ثغر من ثغور الدعوة غير مضيّع ما أنجز.

وأنا هنا لا أتألى على الله؛ فرُبَّ عمل من أعماله الصالحة، وهى كثيرة، حققت له الحُسنى وزيادة،

لكنّى أتحدث عن الظاهر، ونحن مأمورون بالحكم عليه دون الباطن، خصوصًا أن الرجل وضرباءه أثاروا فتنة، بعدما شككوا فى أهل الحق،

فضلًا عن تجرُّدهم من عهد قطعوه على أنفسهم بالأمس، وتلك خيانة، أما الخيانة الأعظم فهى ارتماؤهم فى أحضان قاتلى الموحّدين نكاية فيمن آكلوهم وشاربوهم لعقود.

كتب أحدُهم أن هذا الرجل –وكان أثيرًا لديه لصيقًا به- كان يودُّ بعد عودته من أوربا إبّان الثورة أن تكون له مكانة كما كانت له بالأمس،

لكنه قوبل بالإهمال وعدم إسناد مناصب جديدة إليه على غير ما كان يتوقع.

وأسأله: وهل هذا دافعٌ لأن يحلَّ ضيفًا دائمًا على إعلام العسكر طاعنًا فى جماعته التى بذل فيها عمره، مشاركًا فى صياغة دستورهم الذى كُتب على رفات الشهداء؟

إنه لم يكتف بحرب الذين جنّبوه –إن كان ذلك حقيقيًّا- بل صار أداة من أدوات الحرب النفسية ضد أهل الحق عمومًا، سهمًا نافذًا فى صدورهم،

وقد تلقفته يدُ الباطل فلمّعوه وعظّموه حتى إذا انتهى من أداء الدور

الذى أرادوه ألقوه كما ألقوا غيره من قبل؛ ما اضطره إلى مغادرة البلاد بعدما فَقَدَ الجميع. لقد كان سلوكه الغادر شبيهًا بسلوك من قالوا:

آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.  

وأنا هنا لا أبرِّأُ أفرادًا من الجماعة،

من ظلمٍ ومضايقات يوقعونها على هؤلاء، وتلك أمراض لا تبرأ منها جماعة من الجماعات،

وقد أشار إليها المؤسس نفسه عندما قال: (كم فينا وليسوا منّا، وكم منّا وليسوا فينا)،

ولقد صارحنى يومًا السيد محمد حامد أبو النصر (المرشد الرابع) بقوله:

(لو انشغلتُ بما فعله بى بعض إخوانك المنفِّرون ما صرتُ واحدًا منهم، بله أكون مرشدًا لهم،

إنما كنتُ كلما أساء إلىَّ البعضُ أستحضر معانى الآية الكريمة:

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ

فأعود إلى سالف عهدى من الهدوء والسكينة).

وبالمنطق ذاته

لا أبرئ هذه الطائفة المجاهرة بالسوء بعد انشقاها؛ إذ المؤسس نفسه لمّا قسّم درجات الأخ جعل فيها (الأخ النفعى)،

وهؤلاء بالفعل لا تخلو منهم هذه الجماعة وغيرها من الجماعات، فقد رُكِّبت فينا جميعًا الشهوة،

فهناك من هداه الله فتغلّب عليها وألجمها بكوابح الإيمان،

وهناك من لم يستطع فغلبته حتى لا يستطيع ردّها، ولقد كان الشيخ الباقورى صريحًا فى هذا الأمر؛

إذ أغراه العسكر بالوزارة فلم يستطع الصمود أمام هذا الإغراء فهرول إليهم مخالفًا قرار إخوانه،

وقد كان مسئولًا كبيرًا فيهم.

فلمّا زاره المستشار الهضيبى فى مكتبه بعدما قدّم له استقالته فى اليوم السابق قال له: (اعذرنى يا مولانا،

إنها شهوة نفس. فرد الهضيبى: تمتع بها كما تشاء، اشبع بيها).

دراسة شاملة حول هذا تحوّل المنشقين

كتبتُ يومًا: «وددتُ لو قام أحدُهم بدراسة شاملة حول هذا التحوّل الغريب عند هؤلاء «المنشقين»، ومنهم فريق آخر كرام،

أبقوا على الود القديم فلم يعادوا إخوانهم ولم يفجروا فى الخصومة، ما الفارق بين هؤلاء وهؤلاء؟»،

وأؤكد اليوم أنّ هذا أمرٌ مهمٌّ للغاية؛ إذ الأسباب التى دفعت هؤلاء إلى ترك الجماعة لا تستدعى أبدًا هذا الغدر الذى تعدى أفرادًا اختلفوا معهم إلى جماعة بكاملها،

بل إلى تيار إسلامىٍّ عريض، بل إلى العامة الذين أمّلوا خيرًا فى هذا وأمثاله…

هل هو اضطرابٌ وجدانىٌّ أُصيب به هؤلاء غطّاه نشاطهم الدءوب وشهرتهم الواسعة وانغماسهم فى العمل العام؟

أم هو الإحباط الشديد والاكتئاب الحادّ الذى حلّ بهم بعد إنزالهم من علوِّ الشهرة وبريق السلطة؟

أمْ هو الاندفاع والحمق واللامبالاة بعد تجريدهم من مناصبهم والوقوف أمام تطلعاتهم؟

أم هو ضمور الذاكرة وتشويش أصابها فحدث ما يشبه الهياج والصعود والنزول؟

أمْ أنها نفوس خبيثة مطوية على الغموض وعدم الصراحة؟

أم هو استبدادٌ وجنون عظمة وعشقٌ للَّمعان والشهرة حتى إذا حُرموا من ذلك خرجوا عن السيطرة؟

قد تكون واحدة من هؤلاء، وقد تكون مجتمعة، وقد لا تكون واحدة منها. فليفتنا علماء النفس والسلوك.

من الهيثم زعفان

رئيس مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية