«مشهد»

في ناحيةٍ ما، غلامٌ يرعى غنمًا لرجلٌ من أهل مكة.. يمرُّ به رسول الله وأبو بكر الصديق رضي الله عنه.. يسأله شرابًا،

فيعتذر الغلامُ الراعي بأنه مؤتمَن على الغنم، يطلب منه شاةً جذَعَة، يأتيهِ الغلامُ بما طلب، يمسحُ ضرعَ الشاة فتدرُّ لبنًا،

فيشرب ويشرب الصدِّيقُ ويشرب الغلام، ثم يُسلِمُ بعدها..

وفي ناحيةٍ أخرى، رجل متألِّهٌ يسمع خبر النبوة الذي انتشر بمكةَ، فيرسل أخاه ليستوثق من الخبر، فلا يشفيه مما يريد،

فينطلق بنفسه حتى يقف على النبي ، فيحاورُه أخذًا ورَدًّا، وينتهي الحوارُ بدخول ذلك المتألِّه في الإسلام.

هذان الرجلان من أعظم الناس قدرًا في الإسلام وأحسنِهم بلاءً،

فالأولُ منهما:

عبدُ الله بن مسعود، وهو أولُ رجلٍ يجهر بالقرآن في ملأ قريش،

والآخَرُ:

أبو ذر الغفاري، الذي ما أن أسلمَ حتى خرج صادعا بالحق بين ظهرانيهم.. كلاهما ضرب حينئذٍ، وكلاهما كان أثبتَ من الجبال الرواسي!

كِلا الرجلين من ربِّه بمكانٍ رفيعٍ.

رضي رسولُ الله لأمَّته ما رضي لها عبدُ الله بنُ مسعود، وأمر بالتمسُّك بعهده وبأخذ القرآن عنه،

وكان أشبهَ الناس برسول الله هديًا ودلًّا وسمتًا، ومن أقرب الناس إلى الله وسيلة.

وأبو ذرٍّ كان نسيجَ وحدِه زهدًا وورعًا، ووعَد رسولَ الله وعدًا بقي عليه حتى توفي، وكان أصدق الناس لهجةً.

في غزوة تبوك كانت الظروفُ على خلاف ما يحب المسلمون، فكان الخروج صعبًا، وخرج أبو ذرٍّ على راحلته فبطَأَتْ به،

فترَكَها وأكملَ الدربَ مشيًا، فترحَّمَ عليه النبي ، وذكر أنه يمشي وحدَه ويموت وحده ويبعث وحده.

ضرب الدهرُ ضربَه،

وخرج أبو ذر إلى الربذة شرقَ المدينة المنورة وسكنَها مع أهله، فلما حضرَه الموت أوصى امرأتَه أن تضعَه على قارعة الطريق لعل أحدا من الناس يلقاه فيدفنه، وأوصى أن يكفَّن بمالِ مَن لم يخالطِ السلطانَ، ثم مات.

قدم ركْبُ العراق حجاجًا، وكان فيهم ابنُ مسعود، فرأى منظرا استغربَه، فلما دنا من ناحية المنظر، أخبرتْه امرأةُ أبي ذر بوفاته وما قاله وأوصى به..

تتابعتْ بين عينيه قوافلُ الذكرياتِ يحدوها التصديقُ بالكلمة النبوية الخالدة «ويموت وحدَه»،

وردَّد تلك الكلمةَ وهو يعدُّ العدة لدفْن صديقه وأخيه في الإسلام قدَمًا وثباتًا وحسنَ بلاءٍ وغَناءٍ،

ولسانُ مقاله وحاله: صدق رسول الله ، ورحِمَ اللهُ أبا ذرٍّ!.

رحمة الله ورضوانه على السيدين الكبيرين، عبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري.

من د. جمال عبد الستار

الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة