يعد نظام مبارك هو النظام الأكثر استقرارا بين الأربعة العسكرية التي حكمت مصر حتى اليوم، فهو نظام لم يشهد مظاهرات عنيفة بفضل سيطرة قبضته الأمنية لمدة ثلاثين عاما، ولتباعد السنين بعد آخر مرات ثار فيها الشعب على قرارات سيادية، ولأنه أحاط نفسه بنخبة من المخضرمين سياسيا واقتصاديا وإعلاميا، ثم لأن المواطن لم يكن قد انفتح على ثقافات وأحوال الشعوب الأخرى، وكان الحديث السياسي يدور فقط بين النخب وكبار قيادات مؤسسات الدولة، أما العامة فنصيبهم مانشيتات جرائد وفقاعات إعلام لامعة تنفس عن الغضب المكبوت وتخدر الألم المزمن.

اكتملت في عهد مبارك عناصر الهيمنة السياسية إلى حد إعداد ابنه ليرث الحكم، ووصل استفزازه للقوى السياسية حد تزوير آخر انتخابات برلمانية، لذلك كانت الاستجابة لدعوات الثورة أقرب لقرار النخب من استكمال المسيرة مع نظام لابد أن يشهد النقصان بعد تمام كماله.

أثناء انتفاضة يناير 2011 حذر مبارك من سيناريو الفوضى إذا لم يتراجع الشعب؛لكنه أيضا لم يدرك أن حية رباها في جيبه قرب قلبه لن تسمح للناس أن يدركوا حجم الخطر المحدق، كما أنه في هذه اللحظة العميقة البؤس وضع شعبه أمام خيارين أحلاهما مر، فإما «سكة الندامة» المتمثلة في عودة الشعب الناشز إلى بيت طاعته، أو سكة «اللي يروح ميرجعش» حيث مجهول ما بعد أزاحته!

مهدت 25 يناير لثلاثة انقلابات متقاطعة متزامنة،

أولا انقلاب العسكريين على مبارك،

وثانيا، انقلاب تيار التحديث داخل الجيش على قياداته «الطرف الثالث»،

وثالثا، انقلاب تيار التجديد داخل جماعة الإخوان المسلمين على كيانه، قادت وجوه سياسية وعسكرية عتيقة الانقلابات الثلاثة من خلال وجوه شبابية جديدة استخدمتها  كأدوات لتحقيق حلم قديم بالقيادة.

نظرا لنجاح الانقلاب الأول، اتخذت جماعة الإخوان قرارا بتخفيف سرعة اندفاع قطاري الانقلابين الآخرين ومحاولة إلزامهما قدر المستطاع القضبان، أولا عبر فرضها مبدأ السلمية على الميادين بحكم أنها القوة الشعبية الضاربة، وثانيا من خلال سياستها الإصلاحية التي اعتبرتها باقي القوي خيانة للثورة.

حاولت قيادات الجماعة صد كرة ثلج الانقلاب الثاني إلا أنها في النهاية انهارت في 2013 أمام خطة عالمية محكمة لم يستطع نظام مبارك ذي الثلاثين عاما المدجج بالرسوخ ردعها.

برغم ما مرت به مصر من اقتحام سجون وهروب مجرمين ومظاهرات واعتصامات لمدة عامين، لكنها لم تسقط في بئر الفوضى إلا بعد الثلاثين من يونيو؛ فقد تبعت الانقلاب الكبير انقلابات صغيرة في كل المؤسسات العامة والخاصة، الجادة والترفيهية حتى غرقت مصر في فترة تشبه عصور الاضمحلال الفرعونية!

إن الذي فتح ميدان 25 يناير و30 يونيو هو من يغلقه اليوم، وهو نفسه من ادعى أنه حمى مصر من مصير سوريا والعراق، وهو من ثابر لإضرام نيران حرب أهلية، كانت أولها، في جمعة الغضب عندما التحم أنصار مبارك والثوار، وثانيها، عندما طلب من الشعب تفويضا ليواجه الإرهاب المحتمل، وثالثها عندما نفذ أبشع مجزرتين في تاريخ مصر، وعندما فشل لجأ إلى الخطة البديلة وهي إشاعة فوضى منظمة تسحق عظام المجتمع واقتصاديات الدولة وتصل بمصر لنفس مصير سوريا والعراق، لكن، دون حرب.

ليست هناك ثمة فوارق ملموسة بين ما آل إليه حال مصر وأي دولة فتكت بها الحروب، فقد فقدت مصر حصتها في مياه النيل، وبعض حقول الغاز وجزيرتين استراتيجيتين وعرضت أصول ملكياتها للبيع والإيجار والاستثمار؛ وفي أم الدنيا تقام مؤتمرات اقتصادية تستخدم نفس لغة مؤتمرات إعادة اعمار الدول التي حطمتها المعارك! كما أنها أصبحت متسولا مقيما على أعتاب صندوق النقد الدولي تقدم له كل التنازلات الممكنة وغير الممكنة، وصارت تقترض لا إراديا حتى فقدت وعيها الاقتصادي فطأطأت الرأس أمام تدخلات أجنبية في شئونها الداخلية.

جنت مصر ثمار الحرب الأهلية دون قتال، والتي تجلت في مشاهد تصارع المواطنين على سيارات الجيش للحصول على المساعدات، وقفزهم بشكل شرعي وغير شرعي في زوارق الهجرة؛ وهروب الكفاءات للخارج؛ وارتفاع أعداد المنتحرين، والمهجرين، وضحايا الحوادث، وزيادة معدلات الجريمة؛ ومد قانون طوارئ يشرع الاعتقالات التعسفية والإخفاءات القسرية والسجن والاعدام والقبض على المواطنين بالنوايا والشبهة والوشاية؛ وانتشار الجيش في كل شوارع البلاد والاقتصاد.

أفلتت مصر زمام قيادة المنطقة، وخسرت ريادتها وثقلها السياسي، ومكانتها العلمية الرائدة، وقُدمت للعالم كمأوى للإرهابيين ومرتع للمبتذلين؛ كما أنها عجزت عن إصلاح ماسورة السوقية التي انفجرت في طول البلاد وعرضها لتقدم مقياسا فاسدا للمستوى الثقافي للمجتمع؛ وبعد أن كانت قبلة السياحة في الشرق، استطاعت دول أخرى لا تملك عشر مقوماتها الحضارية أن تسحب البساط من تحت قدميها.

سبعون عاما من الحكم العسكري أفقدت مصر هويتها فلا هي ظلت دولة زراعية ولا بقيت مصانعها قيد التشغيل، فتحولت لشبه دولة يحكمها شبه رئيس، قدم شبه برنامج انتخابي، ورضي به شبه مواطنين؛ وبفضل عبقرية «الشبه»، يعيش المصريون شبه حياة، ويتعلمون شبه تعليم، ويعالجهم شبه نظام صحي، ويسحق أرزاقهم شبه مخطط اقتصادي، ويصبرهم شبه شيوخ، ويطمس وعيهم شبه إعلاميين، وتعلو وجوههم شبه ضحكة، لكن يعصر قلوبهم حزن أصيل.

تطغى المشاعر التي تصاحب النكسات السياسية على حياة المصريين، وبحلول الذكرى الثانية عشرة لثورة 25 يناير، تأكد للجميع وصول مصر إلى مصير سوريا والعراق وربما فلسطين أيضا.

انتكست مصر في 1967 للمرة الأولى عندما ضربت طائراتها الحربية قبل أن تقلع فضاعت سيناء، وانتكست للمرة الثانية في 2013 حين ضربت ثورتها على الأرض  دون حرب أيضا فضاع العلم.

من أحمد أبو زيد

كاتب صحفي، وباحث في الفكر الإسلامي