قراءة الواقع الأردني المحتقن وتقاطع دبلوماسيات الشرق الأوسط والاختناق العالمي بفعل الحرب الأوكرانية الروسية واحتمالات تنامي الاحتقان الدولي حول موضوع تايوان مضافا لذلك كله هشاشة الاقتصاد الدولي ودليله أن الصين صاحبة أعلى معدلات النمو الاقتصادي تراجع نموها لعام 2022 إلى أدنى مستوى منذ 1976…كل ذلك يستدعي تفكيرا عميقا من الدبلوماسية الأردنية لمواجهة سياسات الاحتلال الصهيوني في القدس وتحديدا موضوع الوصاية على الأماكن المقدسة، ومن المفروض أن تتدرع هذه الدبلوماسية الأردنية بالقانون الدولي أولا، ثم بالتوجه الدولي العام من هذه القضية ناهيك عن التأييد الشعبي  في مستوياته المختلفة، وكل ذلك لوضع سيناريو واضح ومحدد أمام الكيان الصهيوني وهو:

إلغاء المعاهدة الأردنية الصهيونية أو التراجع عن سياسات ضم القدس.

إن استدعاء السفير الصهيوني وتسليمه احتجاجا لن يؤتي أكله، فالكيان الصهيوني هي صاحبة أعلى معدل بين دول العالم ال193 في تلقي الإدانات والشجب، وهي تنظر لذلك بقدر من الاستهانة، وبنظرة متعالية تجاه الأردن تحديدا.

ولكن ما هي دعائم موقف أردني بوضع المعاهدة على الطاولة أو تراجع الكيان الصهيوني عن سياساتها في القدس؟

أولا: السند القانوني للموقف الأردني:

إن إلغاء المعاهدة مع الكيان الصهيوني في حالة عدم الالتفات لمصالح الأردن ومكانته الإقليمية والدولية أمر تسنده مجموعة مؤشرات أهمها: 

1- النص القانوني في المعاهدة الأردنية الصهيونية، فالمادة 9 الفقرة 2 تنص على«تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي سيولي الكيان الصهيوني أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن».

ذلك يعني أن الأردن يطالب بحق وافق عليه الكيان الصهيوني وأكدته في إعلان واشنطن بعد ذلك، وهو ما يجعل الموقف الأردني مبررا من الناحية القانونية، فالخروج  الصهيوني على بند من المعاهدة هو بمثابة إلغاء لها.

2- الاتفاق الأردني الفلسطيني:

لقد نص الاتفاق الأردني الفلسطيني عام 2013 في مادته 2 الفقرة 1 على «يعمل جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين بصفته صاحب الوصاية وخادم الأماكن المقدسة في القدس على بذل الجهود الممكنة لرعاية والحفاظ على الأماكن المقدسة في القدس وبشكل خاص الحرم القدسي الشريف».

ولما كانت السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا مؤهله لمثل هذا الاتفاق، فان السلوك الصهيوني يعني اعتداء مزدوجا على كل من الأردن وفلسطين،وهو ما يعطيهما الحق في الرد على انتهاك حقوقهما.

3- قرارات الأمم المتحدة:

ليس هناك قرار واحد اتخذته الأمم المتحدة منذ 1967 يتناغم مع المواقف الصهيونية مهما كان التفسير والتأويل للنصوص القانونية ذات العلاقة بموضوع القدس، وهو ما يعني أن الغطاء الدولي القانوني لأي رد فعل أردني مبرر ومستند للقانون الدولي.

4- الموقف الأمريكي ومعه الغالبية العظمى من دول العالم:

لقد عبرت الولايات المتحدة بشكل واضح وصريح عن عدم موافقتها على  الموقف الصهيوني الأخير بعد عودة نيتنياهو للحكم  من خلال إشارتين هامتين هما:

أ‌- تصريح الممثل الأمريكي الخاص بالقضية الفلسطينية من أن بلاده تريد «إعادة فتح قنصليتها في القدس الشرقية والتي أغلقها الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2019»، وهذه القنصلية هي جسر التواصل مع الإدارة الفلسطينية وبالتالي تعد القدس الشرقية امتدادا للأرض الفلسطينية بالمفهوم الأمريكي.

ب‌- تصريح وزير الخارجية الأمريكية أمام مجموعة J Street المساندة للكيان الصهيوني بان الولايات المتحدة «ستواصل المعارضة التي لا لبس فيها لأي أعمال تقوض آفاق حل الدولتين، بما فيها على سبيل المثال لا الحصر، توسيع المستوطنات أو خطوات في اتجاه ضم أراض في الضفة الغربية أو تغيير الوضع التاريخي القائم للمواقع المقدسة وعمليات الهدم والإخلاء والتحريض على العنف».

لذا وبناء على المواقف الأمريكية المعلنة سيكون الموقف الأردني متسقا مع التصريحات الأمريكية لان السياسة الصهيونية تشكل تحللا من التزاماتها القانونية .

ثانيا: السند السياسي للموقف الأردني:

أ‌- التأييد الشعبي المحلي والقومي والإسلامي، أن كافة استطلاعات الرأي الأردنية والعربية والإسلامية وعدد غير قليل من بقية دول العالم ترى أن الموقف الصهيوني مخالف لكل ما تم الاتفاق عليه، وهو ما يجعل الموقف الرسمي الأردني معبرا عن طموحات المجتمع العربي والإسلامي والدولي، بل إن وضع المعاهدة على الطاولة سيؤدي إلى امتصاص الاحتقان الداخلي لمواجهة الأزمة الخارجية أو سيؤدي إلى نجاح أردني في دفع الكيان الصهيوني لإعادة النظر في «مستوى رعونتها»  مع الأردن، وهو ما يعزز المكانة الأردنية داخليا وإقليميا.

ب‌- التعالي والرعونة الصهيونية تجاه الدبلوماسية الأردنية، ومحاولات التعامل مع الأردن كما لو أنها ارض مستباحة، ولست بحاجة هنا إلى التذكير بما  جرى في السفارة الصهيونية في عمان أو ما جرى ويجري على الجسور بين فلسطين والأردن  بل والمقالات الصهيونية المتعالية على الأردن والتلميح بين الحين والآخر بـ«الخيار الأردني»، ولكني أود التذكير بواقعة من الضروري استحضارها كسابقة تاريخية وهي واقعة محاولة اغتيال خالد مشعل، فبعد أن أشار الملك حسين إلى «أن العملية السلمية مرتبطة بحياة هذا المواطن» استجاب الكيان الصهيوني على الفور، ومن المؤكد أن القيمة الرمزية والتاريخية للمقدسات تعلو كثيرا على قيمة  خالد مشعل.

ولكن ما هي العواقب السياسية للموقف الأردني الحازم؟:

تقف المساعدات الأمريكية والغربية من ناحية والمساندة السياسية من ناحية ثانية كأكثر الهواجس حضورا في الحساب الأردني، لكن ذلك صحيح لو كان الموقف الأردني يتناقض مع الموقف الأمريكي في هذه المسالة تحديدا، وهو ما يعني أن الهواجس ليس لها أساس متين، ويمكن للدبلوماسية الأردنية أن تتكئ على الموقف الأمريكي في هذه النقطة تحديدا، ناهيك عن أنه إذا كانت الأردن بحاجة للولايات المتحدة فلا يعني أن الولايات المتحدة لا حاجة لها في الأردن نسبيا، وفي التاريخ من الوقائع ما يعزز ذلك.

بناء على ما سبق، أرى أن على الأردن أن يضع المعاهدة على الطاولة، ما دون ذلك لن يكون أكثر من «ثرثرة فوق النهر» على غرار «ثرثرة فوق النيل» التي تنبأ فيها نجيب محفوظ بكارثة 1967…

ربما.

من د. جمال ضو

بروفيسور جزائري، وباحث في الفيزياء النظرية