منذ نشأتها كإمارة وتحولها لإمبراطورية ضخمة وقوة عالمية وحتى سقوطها في القرن الـ20 كانت الدولة العثمانية موضوع نقاش طويل ومستمر، لا سيما بين المؤرخين والباحثين، ومن أبرزهم المؤرخ والأكاديمي التركي خليل إنالجيك (توفي 2016) الذي أثرى المكتبات العالمية بكتبه التي ترجمت للغات عديدة.

وقدم إنالجيك في كتابه “الإمبراطورية العثمانية.. السلطان والمجتمع والاقتصاد”، الذي صدرت ترجمته العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون، (يناير 2022)، حصيلة أبحاثه الرائدة التي نُشرت بين الأعوام 1960 و1994 حول الحقبة الباكرة من التاريخ العثماني، الذي يركز فيه على دور السلطان والمجتمع والاقتصاد، مستعينا بمخزون الأرشيف العثماني.

ويتناول الكتاب قضايا التأريخ المدني والقانوني للعثمانيين، مستعرضا الآراء السائدة حول آلية التقسيم المرحلي للتاريخ العثماني، والبحث في تاريخ السلاطين من بني عثمان، كما يوضح دوافع أسلمة قوانين الدولة في عهد سليمان القانوني (1494-1566)، ومكانة بطريرك كنيسة الروم الأرثوذكس في ظل الحكم العثماني، وتأثير الإمبراطورية العثمانية الواضح على إسلام الشعوب التركية بشكل عام، وعلى تاريخ الإسلام في آسيا الصغرى بوجه خاص.

حقب التاريخ العثماني

يعتقد المؤرخ إنالجيك أنه يتوجب علينا الأخذ في عين الاعتبار ما إذا كان العثمانيون أنفسهم قد قسموا تاريخهم إلى فترات زمنية أم لا، وما إذا كانوا قادرين على التمييز بين العصر الذي عاشوا فيه والعصور السابقة.

ففي المقدمة المسهبة لكتابه المدون بأمر من بايزيد الثاني (1447-1512)، قارن المؤرخ العثماني كمال باشا زاده (توفي 1535) التاريخ العثماني مع تاريخ السلالات الإسلامية السابقة، وعزا زاده أسباب تفوق العثمانيين على أسلافهم إلى أنهم لم يؤسسوا دولتهم من خلال الإطاحة بحكم الدول الإسلامية السابقة والاستيلاء عليها عنوة، بل عن طريق فتح بلاد غير المسلمين.

ومع ذلك كانت هناك انتقادات تجاه الإدارة العثمانية كما أقر السلطان محمد الثالث (1595-1603م) في مرسوم العدالة الشهير (عدالت نامه) الذي أصدره بمناسبة توليه العرش. والمفارقة أن الأزمات قد تفاقمت في عهده بصورة أكبر، مما أغرق الإمبراطورية في حقبة من الفوضى والانحطاط الشامل، استمرت لنصف قرن من الزمن -حسب المؤلف- وخلال هذه الحقبة أصبح الإداريون والكتاب العثمانيون أكثر إدراكا للفروقات بين العصر الذهبي السابق وعصر الانحدار الذي يعيشون فيه.

وقدم كتاب قدامى من أمثال المؤرخ مصطفى عالي غاليبولي (1541-1600م) صاحب كتاب (نشأة السلاطين)، والكاتب عيني علي في بداية القرن الـ 17، وكذلك مؤلف “الكتاب المستطاب” وغيرهم، وجهات نظر عامة حول عوامل انهيار القانون والنظام، متتبعين بداية الانهيار بالعودة إلى عهد مراد الثالث (1574-1595م) ومحمد الثالث في الربع الأخير من القرن الـ 16. وبصفة عامة فقد اعتبروا أن عهد سليمان هو النموذج الذي يجب الاقتداء به.

ويلفت إنالجيك إلى أنه تم اعتماد أفكار ابن خلدون (1332-1406م) على نحو متزايد من قبل مؤرخي عصر الانحطاط، معتبرين أن هذه الأفكار توضح الاتجاه الذي يسير عليه التاريخ العثماني.

تناحر العالم المسيحي

ويقول الكاتب لقد ظل الجهاد أو الغزو أي الحرب المقدسة، هو المبدأ الديناميكي الذي اعتمدته الدولة العثمانية حتى نهاية القرن الـ 17، ويرى أنه بالعودة إلى بدايات عام 1333م لم يعد الجهاد تحديا للإمبراطورية البيزنطية وبلدان البلقان فقط، بل امتد ليصبح مسألة أوروبية في عهد بايزيد الأول (1389-1402م)، فخلال الفترة الممتدة بين الأعوام (1393-1396م)، انطلقت الجيوش العثمانية صوب البحر الأدرياتيكي من جهة، وصوب ضفاف الدانوب من جهة أخرى، مما دفع المجر والبندقية لاتخاذ إجراءات حاسمة، حيث تمكنوا من دفع العالم المسيحي الغربي للقيام بحملة صليبية.

وأضاف المؤلف أن سقوط بلغراد في عام 1521م ومن ثم سقوط رودس (جزيرة يونانية حاليا) في عام 1522م، كان استهلالا لمرحلة جديدة بين الشرق والغرب.

فلم تعد الدولة العثمانية مجرد دولة حدودية غازية على أطراف العالم الإسلامي، بل باتت تحتضن أهم دول العالم، حسب تعبير المؤرخ إنالجيك لتصبح ممثلة الخلافة الإسلامية نفسها.

ويبين الكاتب أنه بحلول منتصف القرن الـ16، غدا العالم برمته ساحة مفتوحة وأصبحت الدولة العثمانية باعتبارها حامية العالم الإسلامي، نشطة على كافة الجبهات. فعلى سبيل المثال قام السلطان سليم بإرسال مساعدة عسكرية لسلطان آتشيه في سومطرة ضد البرتغال، وسلاطين غوجرات (سلالة آل مظفر) في غرب الهند.

ويؤكد المؤرخ إنالجيك في كتابه أن المبدأ الأساسي الذي سارت عليه السياسة العثمانية كان الحفاظ على تناحر العالم المسيحي، ففي القرن الـ 16 اعتبر العثمانيون كلا من الهابسبورغيين (عائلة ملكية نمساوية) والبابوية -الساعين إلى توحيد أوروبا- عدوين لا يمكن التوافق معهما، وقاموا بتقديم كل الدعم لكل حركة قامت ضدهما في أوروبا.

ويضيف إنالجيك كما أن التحالف العثماني مع فرنسا في هذا الإطار معروف جيدا، وتضم وثائق الدولة الرسمية العائدة للمسؤول العثماني والمؤلف أحمد فريدون بيك، رسالة سليمان القانوني إلى الأمراء اللوثريين في ألمانيا والتي كتبت عام 1552م. حيث يتعهد فيها بعدم مهاجمة البروتستانت طالما ظلوا على وفاق مع حليفته فرنسا.

كما أرسل السلطان رسائل تشجيعية إلى الهولنديين خلال تمردهم على فيليب الثاني ملك إسبانيا. ويوضح الكاتب أن العثمانيين أقاموا علاقات ودية مع الملكة إليزابيث الأولى (1533-1603م) ملكة إنجلترا، فبدأوا بتقديم امتيازات تجارية للإنجليز في بلاد الشام، بدلا من الفرنسيين الذين امتثلوا للسياسات الكاثوليكية، وبالإضافة لذلك فقد كانوا على الدوام من الداعمين للكالفانيين في المجر (مذهب مسيحي بروتستانتي).

سلطان البرين وخاقان البحرين

يرى المؤرخ خليل إنالجيك أنه بدءا من عهد محمد الفاتح (1451-1481م)، استخدم السلاطين العثمانيون لقب “سلطان البرين وخاقان البحرين”، ويذكر أن منظري السلطة المطلقة في أوروبا سارعوا إلى الاحتذاء بالنموذج العثماني بالنسبة للسلطة المركزية المطلقة، وفي دراسته عن الدولة الوراثية، يستشهد العالم الاجتماعي والفيلسوف الألماني ماكس فيبر(1864-1920م) بالطابع الوراثي الخاص للدولة العثمانية، ويقول إن الدولة الوراثية وبصفة عامة “تجعل من التنظيم الإداري والعسكري مجرد وسيلة شخصية بيد الحاكم لتوسيع سلطته التوسعية”.

ويعتبر إنالجيك أن فيبر كان محقا في ذلك، حيث لجوء الحاكم للقوة يعد مبررا من أجل المحافظة على التوازن بين مجموعات القوى المتنافسة.

ويرد في الكتاب أن السلطان العثماني استطاع بواسطة قوات الانكشارية التي كانت عبارة عن جيش دائم مدفوع الأجر، يتبع للسلطان بشكل مباشر، أن يلحق الهزائم بخصومه من الأمراء الحدوديين كما حصل على سبيل المثال في معركتي كوسوفو (قوصوه) (1389م) ونيقوبوليس (1396م).

وحسب الكاتب انتقل بذلك البيت العثماني من التقاليد التركية القديمة للحكم، التي تقوم على تداول السيادة بشكل مشترك بين جميع أفراد العائلة الحاكمة، إلى الفكرة الشرقية القديمة والمقدسة للسلطة غير القابلة للتجزئة، والمتجسدة في شخص حاكم واحد.

البطريركية اليونانية في ظل الإدارة العثمانية

يقول المؤرخ إنالجيك من المفترض أن الوثيقة التي صدرت في الأصل عام 1454م، كانت أحد أشكال المعاهدات، على غرار الامتيازات الممنوحة للأجانب وغير المسلمين على الأراضي الإسلامية، كما اعتبرت هذه الاتفاقية أنها وثيقة لتنظيم المجتمع المسيحي الأرثوذكسي تحت الحكم العثماني، على شكل هيئة مستقلة تابعة لسلطة البطريرك.

ويؤكد المؤرخ والقانوني اليوناني البارز بنتازوبولوس (N.J. Pentazpoulos) قائلا “إن محمد الثاني لم يعترف بالامتيازات الدينية القديمة للبطريرك فحسب، بل منحه سلطة سياسية كبيرة أيضا”.

كما يشدد بنتازوبولوس على استخدام البطريرك الشعار الإمبراطوري للنسر ذي الرأسين، فقد ظهر على أنه تجسيد لـ “النموذج الأعلى للسياسة البيزنطية” في عهد العثمانيين.

وبدوره، يؤكد المؤرخ إنالجيك أن حقيقة موقف العثمانيين في تفضيلهم العلني للكنيسة الأرثوذكسية، والعمل على استعادتها لمكانتها السابقة في مواجهة الكنيسة اللاتينية، يعتبر مؤشرا واضحا على النية السياسية لموقفهم.

ويذكر المؤلف أن الروم الأرثوذكس والأرمن واليهود، شكلوا نسبة كبيرة من رعايا السلطنة من أهل الذمة، لذا استوجب ذلك صياغة نظام الملل تزامنا مع فتح إسطنبول في 29 مايو 1453م الذي ينظم علاقات هؤلاء داخل الإمبراطورية العثمانية.

الإسلام في الإمبراطورية العثمانية

يذكر إنالجيك بأن أوائل الأتراك الذين اعتنقوا الإسلام بشكل جماعي هم الأتراك البلغار من منطقة الفولغا الوسطى (الجزء الأوروبي الغربي من روسيا حاليا)، والأتراك التابعون لحكم سلالة القره خانات في المنطقة الواقعة بين قشغر (أشهر مدن تركستان الشرقية غرب الصين حاليا) وبحيرة بالكاش في آسيا الوسطى (كازاخستان حاليا). وذلك في عامي 921 و960م على التوالي.

وأضاف لم يكن من قبيل المصادفة أن هذه المناطق كانت تمتاز بتفوق مكانتها التجارية، وازدهار تجارة القوافل الإسلامية والمستعمرات التجارية لفترة طويلة.

ويؤكد المؤلف أن هؤلاء التجار المسلمين أثاروا إعجاب الطبقة الحاكمة التركية، بصفتهم ناقلين ليس للسلع الفاخرة فحسب، ولكن أيضا للأخلاق الرفيعة والقيم الثقافية العالية، وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 921م، طلب حاكم البلغار من الخليفة العباسي المقتدر بالله (895-932م) إرسال وفد من العلماء ليقوموا بمهمة تعليمهم الدين الإسلامي، كما طلب منه خبراء لبناء حصون ضد الخزر الأقوياء، ويبدو أن قرار التحول للدين الإسلامي، الذي اتخذه حاكم السلالة القره خانات كان له هو الآخر تداعيات سياسية، لأنه استلزم أخذ ما وراء النهر من الإمارة السامانية المعروف قادتها بحماستهم في الدفاع عن الإسلام وتوسيعه، بين شعوب السهوب الواقعة وراء نهر سيحون.

وهكذا أصبحت مملكتا القره خانات والبلغار، مركزين لأكثر أشكال الثقافة الإسلامية أصالة وتطورا.

ويشير المؤلف إلى أن قبائل التركمان الأوغوز في السهوب الواقعة وراء نهر سيحون وخوارزم. قدر لها أن تلعب دورا رئيسيا في تاريخ الإسلام.

ويبين المؤلف أن السامانيون قد استخدموا الأتراك في جيوشهم، وهكذا شكلت كل من الغزوات والحروب المقدسة والتصوف الشعبي، السمات الأصلية والدائمة للإسلام التركي منذ البداية.

ويوضح المؤلف في القرن الـ 11، بدأت هجرة جماعية من قبائل الأوغوز إلى شرق إيران، وبدأت العديد من هذه القبائل تنتظم تحت قيادات زعمائهم كوحدات مرتزقة أو غازية، سعيا وراء مصالحهم الخاصة من جهة، وفي الوقت نفسه الاندماج بشكل متزايد مع الهوية الإسلامية.

ويبين الكاتب في نهاية المطاف، تمكن أحدهم وهو طغرل بيك بن سلجوق (990-1063م)، أن يوحد تحت قيادته الكثير من قبائل الأوغوز، ليحل محل الدولة الغزنوية (963-1186م) في شرق إيران، وهي دولة أسستها مجموعة من العبيد والمرتزقة الأتراك وكانت مهمتها الأساسية القيام بحملات الغزو في شبه القارة الهندية، وذلك من خلال إخضاع الولايات الواقعة أقصى شرق دولة الخلافة لسيطرته وتخليص خليفة بغداد من هيمنة البويهيين (الشيعة) 923-1062م، وبذلك -حسب الكتاب – بات بإمكان طغرل أن يدعي أنه ممثل السلطة الدنيوية للخلافة، وحامي الإسلام الحقيقي.

والمؤلف خليل إنالجيك (1919-2016) وُلد في إسطنبول لعائلة تنحدر من تتار القرم، انتسب لجامعة أنقرة كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا، حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ عام 1943م، حاضر في العديد من الجامعات مثل بيلكنت في أنقرة وشيكاغو وبرينستون وهارفارد في الولايات المتحدة

المصدر : الجزيرة