(لو دخلَ «عبد الناصر» الجنّةَ لأستأذنتُ على ربى وسألته: لِمَ أدخلته الجنة؟!).. هذه الكلمات الصادمة سمعتها بأذنىَّ من أحد ضحايا الطاغية قبل ثلاثين عامًا، ورغم اعتراضنا على طريقته فى التعبير إذ الله (تعالى) لا يُسألُ عما يفعل..

فإن هذه الجملة والحالة الشعورية التى كان عليها الرجل حين تلفّظ بها تنبئان عن محنة مُروِّعة تعرّض لها، كما تنبئان عما تنطوى عليه صدور المظلومين تجاه الظالمين.

ومن عجائب الطغاة أن هذا الرجل الوجيه الرقيق ضعيف البنية، أُحيل إلى المحاكمة العسكرية فى عام 1995 بدون تهمة، وكان يومها ابن (94) سنة، رحمه الله، وهو ما تندرت به الأوساط حينها.. لكن يبدو أنه جرى عليه قلم الغباء المعهود: (اعتقال من سبق اعتقاله).

الشاهدُ أنّ الذنبَ لا يُنسى، والدماءَ لا تنام، وصدورَ المظلومين تغلى بالحنق على المستبدين، وينتظرون فى كل لحظة عملَ يد الله فيهم، ويعيشون بيقين: (وعند الله تجتمع الخصوم)، وكلما مروا بآية من آيات انتقام الله من الظالمين توقفوا عندها مؤمّلين أن يشفى الله صدورهم بقطع دابر المجرمين؛ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم: 4، 5].

قد أفسد المستبدون حياة المستَبَدِّ بهم؛ أدخلوهم فى طوْر المعاناة والمحنة، وحرموهم العيش الآمن، وأهانوهم وقيدوا حرياتهم.. وكلها جرائم ضد الإنسانية تشعل قلوب المظلومين بالحقد على ظالميهم، ولا يبرّد قلوبهم إلا القصاص العادل، أو الأمل فى انتقام الله فى الدنيا وعدله فى الآخرة، وهذا الأملُ مقرونٌ بالصبر المأمور به، وبالثقة فى نيْل الأجر والثواب.. لكن تظل العيون متطلعة إلى السماء والألسنة لاهجة بالدعاء بالانتقام من المجرمين، مثلما فعل موسى ومن معه؛ (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 88].

قد يغيب عن البعض أن من عقاب الله للعصاة والمجرمين أنه يستدرجهم، أى يزين لهم ما هم فيه من إجرام وباطل حتى يظنوا أنهم يحسنون صُنعًا، وفى الحقيقة هذا هو الانتقام بعينه؛ فإن الله يملى لهم فى الطغيان وهم فرحون، فى غيّهم سادرون، فى حين يحصى عليهم كل صغير وكبير وقد أعمى أبصارهم، فإذا جاء وعده لم يفلتهم، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وفى الزمن القريب رأينا عدل الله وانتقامه فيمن آذوا المؤمنين، وقد ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، فماتوا شرَّ موته، أو سُجنوا أو شُتتوا فى الأرض وأهينوا.. قُتل القذافى وعبث مواطنوه بجثته، وأُخرج صدام من حفرة كالفأر المبتلّ ثم أُعدم بيد الأمريكان، وهرب بن على ليعيش عيش اللاجئ المنحط، وتعرّض على صالح للقتل وحُرق وجهه فصار كوجه قرد، وسُلب مُلكُ مبارك بعد عزٍّ ومخيلة.. والقائمة تطول، وما كان ربك نسيًّا.

ومن نجوْا منهم، وما نجوْا، يعيشون عيش المريب، يحسبون كل صيحة عليهم، ليلهم عذاب ونهارهم عتاب، تطنُّ فى آذانهم الوساوس ولو بدوْا سالمين؛ (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 81، 82]، ولن ينسى التاريخ ما اقترفوه وإن زيّفوه واستغفلوا الجماهير.

وما يُقال عن المستبدين يُقالُ عن مؤيديهم، وهم العبيد ناقصو المروءة، فاقدو العقل، فيسرى عليهم ما يسرى على أسيادهم، وقد رأينا كثيرًا منهم ناله عقاب الدنيا، وعقاب الآخرة أشد وأنكى، ورأينا شماتة الناس فيهم، فضلًا عما يورِّثونه لذويهم من تعيير وتشنيع؛ (عجبتُ لمبتاعِ الضلالةِ بالهدى… وللمشترى دنياه بالدينِ أعجبُ؛ وأعجبُ من هذين من باع دينَه… بدنيا سواه فهو من هذين أخيبُ).

وينطبق الأمر ذاته على الساكتين عن نصرة المظلومين، المترددين فى نصح المستبدين، المضيعين لأوامر ونواهى الدين فى الشهادة بالحق؛ وفيهم ورد حديث النبى ﷺ: «ما من امرئ مسلم يخُذلُ امرأً مسلمًا فى موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله فى موطن يُحبُّ فيه نُصرته. وما من امرئ ينصر مسلمًا فى موضع يُنتقص فيه من عِرضه ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله فى موضع يحبُّ فيه نُصرته».

من الهيثم زعفان

رئيس مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية