من أعظم أبواب تثوير العلم في صدر المتفقه، والذي يمكنِّه من نيل مادة العلم ورسوخه في وقتٍ قريبٍ ما يمكن تسميته بمناطحة الأفكار.

وأهمُّ وسيلةٍ كانت تعتمد عند السلف لتحصيلِ ذلك مجالسُ المذاكرةِ والمناظرة،

ولهذا كثر تنظيرهم للمذاكرة وبيانهم لفقه المناظرة؛ إذ بذلك تتوقد العقول،

وتقوم بإقامة الأدلة ونصب البراهين والحجج على الأقوال،

ثم ما يتبع ذلك من فحصٍ عميقٍ لهذه الأقوال ونقدها وإيراد الاعتراضات عليها،

وما يستتبعه ذلك كله من إعمال كل فريق عقولهم في تأمل نصوص الكتاب والسنة؛

ليصلوا بذلك إلى إقرار لأقوالهم أو نسفٍ لها.

وكان من نتيجة هذا المنهج أنْ نَضجت المسائل وتماسكت الأقوال في هذه المجالس،

حتى إنَّ نشأة أول المذاهب الفقهية كانت نشأةً جماعية في مجالس المذاكرة؛

إذ كان أبو حنيفة وتلاميذه رحمهم الله تعالى يتدالون القولَ في المسألة الواحدة يومًا أو يومين أو ثلاثة بحسب ما تحتاج، وما ترشح عنه تلك المناقشات يُدوَّن في المُصَنَّفات بعد ذلك.

ولو طالعتَ كتبَ المتقدمين لرأيت استفادة المدارس والمذاهب من بعضها، بل إنَّ بعض الكتب كُتبت بحضور نَفَسِ المناظرة والأخذ والرد؛

كالتجريد للقدوري الحنفي والحاوي الكبير للماوردي الشافعي والمحلى لابن حزم الظاهري.

 واستطاع ابن رشد المالكي في كتابه الفذ «بداية المجتهد» أن يلتقط حركة عقولهم وتحرير محل النزاع بدقةٍ بينهم،

فصار كتابه أهم كتابٍ في التَّرِكَة الفقهية في بابه.

فهذه المصنفات جاءت عصارة أنظار رجال العصور الأولى، ومن أحسن ما وُصِفت به تلك المرحلة ما سطره الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله عن عصر الإمام الشافعي بقوله:

وإن شئت أن تسمي عصر الشافعي عصر المناظرات الفقهية المثمرة.. فسمِّه، وإن شئت أن تقول:

إنَّ الفقه الإسلامي الذي استُنبط كان مدينًا لهذه المناظرات المخلصة الشريفة في غايتها.. فقُل!

إلا أنَّ نفس الوسيلة التي تتخذ لتنضيج الأقوال وفحصها وتحقيقها وصولًا إلى القول الناضج الراجح صارت الآن تُتخَّذ مادةً للجدل والتشهير والاتهام والشتم والشحناء وتصفية الحسابات!

هذا مع أنَّ الداعي لتفعيل مجالس المذاكرة والمناظرة تشتد الحاجة إليه اليوم؛

بسبب انهمار ما لا يحصَى من المستجدات والنوازل في هذا العصر، فضلًا عن معركة الأفكار الوافدة التي يراد فرضها داخل البيئة الإسلامية،

بالإضافة إلى الاحتياج الذاتي للبيئة العلمية في كل تخصص بعد الانقطاع المعرفي الذي ساد مناطق كثيرة في الأمة في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية قبل مائة سنةٍ من الآن.

ولعل من أسباب فساد أعظم وسيلة لتوليد الأفكار وإنتاج المفاهيم الشرعية اللازمة لمعالجة نوائب العصر وتثبيت مادة العلم في الصدور..

تعظيمَ الذات، والتعصبَ للجماعات، وازدراء المخالف، وما بنيت عليه الردود السخيفة من تعظيم القائل لا القول، وعدم الإقرار بالحق والفجور في الخصومة.

وبحلول عددٍ من الأخلاق الرَّدِيَّة غابت كثيرٌ من الأرزاق العلمية.

وإذا كان التراث المنقول إلينا عن أئمتنا المتقدمين مشحونًا بمعاني الخشية والأدب والتعظيم بما يدل على صيانتهم للعلم وانتصارهم للحق..

فإنَّ أيَّ جولةٍ لك الآن على اليوتيوب لتأخذ جملةً من النماذج التي تزعم الرد العلمي والانتصار للحق تنبيك أنَّ أكثر من يرد إنما ينتصر لنفسه أو حزبه،

بدليل هشاشة المادة المُقدَّمة، وخلوها من الأدب والحجة.

فمن أراد الانتصار للدين.. فبموازين الدين نفسه.

ولهذا ليس كل من يشتغل بالعلم يتقدم فيه، فهذا العلم لا ينبغ فيه إلا صادق، همُّه عزُّ النفوس وانتصار الحق،

سواء جاء على لسانه أو على لسان غيره من غير فرق، كناشد ضالة لا يهمه أتت على يده أو على يد من يبحث معه.

ولم ينشغل المتأخرون بمن وقع في شَرَك التعصب زمن المتقدمين، بل من كان في لسانه حدةٌ حفظوها له وتسلسل النصحُ بالتحذير من التأثر بها كما كان من شأن الإمام ابن حزم رحمه الله وشدته في بعض المواضع.

وازداد الأمر سوءًا اليوم أن ثمة من ينسب نفسه إلى العلم ثم يأخذ في التشنيع على المخالفين

ولو كانوا من عمالقة الإسلام وأئمته، يتوهمون أنهم يسقِطُونهم وما يسقطون إلا أنفسهم لو كانوا يعلمون.

وصفوة القول في ختام هذه الخاطرة:

إنَّ المتانة العلمية لا تتحقق إلا بمناطحة الأفكار للأفكار،

وسبيلُ ذلك مجالسُ المذاكرةِ والمناظرة، ولكن التي تقوم على الحب والإنصاف وسلامة الصدر.

وذلك كأن يجلس طالبان أو أكثر من طلاب العلم، والسرور ظاهرٌ عليهم والبهجة تلُّفُّهم وما تيسَّر من المطعم والمشرب أمامهم،

وتبدأ عملية النقاش في هذا الجوي الأخوي اللطيف،

فتعرض المسائل مسألةً مسألةً، ويفتح القول فيها بما ينضِّج التصور عنها من غير استطرادٍ إلا ما كان نافعًا منه.

ومن وجد شيخًا يدرسِّه على هذه الطريقة.. فقد أوتي خيرًا عظيمًا.

ولا يضر البطء في السير في هذه المجالس؛ فإنَّ الإنجاز يحفر هنا في العقل حيث لا تراه العيون؛

وإنما تلمحه من درجة النضج التي تزيد شهرًا بعد آخر، فالمدار هنا ليس بعدد الصفحات وإنما بما يقطعه العقل من سير.

أما الردود التي تجري عبر الفضاء العام فينبغي أن تفر منها فرارك من الأسد إلا ما ثبت نفعه عندك بيقين؛

فهي إلى الجهل والتجهيل أقرب منها إلى العلم والتعليم، وإلا التهمتك مطحنة المعارك الجدلية،

وفوَّتت عليك أعظم سنوات عمرك التي ينبغي أن تحفظ فيها المتون وتطالع فيها المطولات وتستكثر من أوراد التعبد ما استطعت في طريقك إلى الله تعالى.

وعليك بكتب المتقدمين؛ فإنها إن لم تعطِك العلم فقد أعطتك العقل، فكيف وهي ينبوع العلم نفسه!

هذا وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين.

محمد بن محمد الأسطل

السبت 23-5-1444 هـ، الموافق 17-12-2022

من وليد كسّاب

عضو اتحاد كتاب مصر