أودع الخالق جل وعلا في مخلوقه المتميز، الإنسان، من الطاقات والإمكانات ما يصعب حصره، حتى أننا، ومنذ قرون طويلة، نجد العلماء، في كل تخصص، يكشفون دائما عن جديد، مؤكدين في الوقت نفسه أن ما توصلنا إلى معرفته ما زال -فيما يبدو- قطرات من بحر، ولعل هذا مغزى قوله سبحانه وتعالى في قرآنه المجيد (وفى أنفسكم أفلا تبصرون)؟

هذه الطاقات، وتلك الإمكانات هي بمثابة «المادة الخام»، تحتاج دائما إلى «اكتشاف»، ثم إلى «تنمية»، ثم إلى «استثمار».

وقد تفنن علماء التربية والنفس والاجتماع في مختلف السبل والنُهج التي عن طريقها يمكن تنمية ما يتم الكشف عنه من طاقات الإنسان وقدراته، لكنها جميعا أشبه بوسائل النقل التي بحاجة إلى «طاقة»، تبعث الحركة وتولد «التدافع» وتبث الحياة هذه الطاقة، إنما هي «الحرية»، وهى الديمقراطية.

خذ على سبيل المثال الوظيفة الأساسية للعقل، أغلى وأثمن ما وُهبه الإنسان، ألا وهى «التفكير»، فهل يمكن أن تكون له فاعلية إن افتقد حرية التعبير؟ وهل يمكن أن يشهد نموا لو كان هناك قمع له وتحجيم؟ وهل يمكن أن تتسع آفاقه وتتعدد لو عاش حصارا ومتاريس وحواجز؟

انظر إلى هذا العصفور المحبوس في قفص.. قد يلقى من العناية مالا يلقاه ملايين من البشر من حيث توفير المأوى وتنظيفه وتوفير الأمن والطعام والمشرب،

ومع ذلك، إذا ما فتح له باب المحبس، تجده سارع بالطيران مرفرفا بجناحيه كأنه يزغرد بحصوله على الحرية،

مع أنه يعلم أنه سوف يتحمل البحث عن الأمن بنفسه، وعن المأكل والمشرب والمأوى.. هو لا يتكلم حقا،

لكن كل أحواله تقول لنا بصريح العبارة، فليذهب الطعام إلى الجحيم، وليذهب المشرب إلى حيث يمكن،

وليذهب المأوى أدراج الرياح، لكن حريتي أغلى من كل الكنوز.. حريتي أثمن من كل ما تتصورون وتفكرون!

فهل يمكن للإنسان أن يقل حاجة إلى الحرية من الطير؟

والحرية نفسها «طاقة» تحتاج إلى حسن استغلال، ومن هنا يجئ دور التعليم في أن يوفر من المناخ ما يدرب الإنسان على ممارسة الحرية عملا، وسبل هذه الممارسة، وأوجه الرشاد والفساد في هذه الممارسة، وأضدادها من القيود وصور الظلم والقهر، فضلا عن الكشف عن حقوقه، ومجالات هذه الحرية، وسبل حمايتها، والوعي بأسسها ومفاهيمها وحقيقتها.

لكنها، قد تُذبح على أبواب مؤسسات التعليم.. إنها حكمة الله سبحانه، عندما يضع في الشيء الواحد الأمر ونقيضه، كالسكين، تقتل إذا أردت، وتيسر لك العديد من السبل إذا أردت.. مثل النار، تحرق إذا طواعية أو كرها، وبها تنير وتفعل الأعاجيب لصلح الإنسان.

هكذا التعليم

إذا كان وسيلة لتعلم ممارسة الحرية، فبالإمكان أيضا أن يتم استخدامه للتدريب على قبول القهر وتعوده  والرضوخ للظلم، وتعود الاستكانة، والرضى بخصي اللسان!

كيف يكون هذا؟

في التعليم العام من المفروض أن يحصل الطلاب على الكثير مما ينمى عقولهم ويدرب مهارتهم ويبث الطاقة والحيوية في قلوبهم ووجدانهم، وهو ما يفترض أن تقوم به مناهج التعليم.

لكن الطالب يتعلم منذ البداية أن «المهم» هو هذا الكم من المعلومات التي تضمها صفحات الكتاب المدرسي، لأن الامتحانات لن تتوجه إلى ما يكتسبه من  قيم واتجاهات، وما قد يرقق مشاعره من وجدان، وما قد تكون يداه قد اكتسبته من مهارات.

وعندما يقف التعليم عند حد تزويد الطلاب بالمعارف والمعلومات،

 فإنما يتعامل معه باعتباره مجرد «وعاء» يملأه المعلم، وفى العادة فإن الوعاء لا يتأثر بالماء الذي يملأه، ولا يكون تفاعل بين الماء والوعاء، وبعد التفريغ يظل الماء ماء ويظل الوعاء وعاء كما كان وسيظل!

ففعل التعليم هنا يجئ إملاء وغصبا، حيث لا موقف ولا رد فعل للوعاء وأنت تملأه بالماء!

لكن لو امتد مجال التعليم إلى ما وراء المعرفة، ولو اتسع ليضم هذا العالم الفسيح من القيم والاتجاهات والميول والمهارات، فجميعها بطبيعتها تعمد بالدرجة الأولى على فاعلية الطالب وإيجابيته وممارسته لحرية الاختيار.

ويكمل من هذه الدائرة الجهنمية لتعليم المقهورين أن تجئ طريقة التعليم وفقا لنموذج المرور المعروف «السير في اتجاه واحد»، وهو هنا من المعلم إلى الطالب.. فهو يقوم «بصب» الماء في الوعاء، فماذا نريد من الوعاء في مقابل ذلك؟!

ليس من طبيعة المعرفة أن يكون تلقيها سلبيا

حقا، ليس من طبيعة المعرفة أن يكون تلقيها سلبيا، إذ يمكن للطالب أن يكون له دور في تحصيلها، ويمكن أن يكون له دور في مناقشتها، لكن هذا أصبح ينظر إليه على أنه مضيعة للوقت، خاصة وأن الامتحان نفسه يلزمه مع المقرر أن يكون «حذو النعل بالنعل» أو يكون عارفا بما هو مطلوب «كما أنزل»، وفقا للتعبير المشهور، بمعنى ألا يزيد على ما تقرر ولا ينقص، فلقد دخل المقرر دائرة «المقدسات»، بل وزاد عليها، فقد أصبحت المقدسات في السنوات الأخيرة مسرحا لبعض اجتراءات تحت مظلة حرية الإبداع، بينما لا يجرؤ طالب أن يفعل ذلك مع ما تقرر عليه من مقررات!!

الوضع الخاص بمناهج التعليم

وإذا تأملت جيدا في الوضع الخاص بمناهج التعليم، فسوف تجد أنها تهبط على الجميع، معلمين وطلابا من علٍ.. من الإدارة المركزية لوزارة التربية والتعليم، حيث يتم إعدادها في أروقتها على يد كرادلة التعليم، صحيح أن من يتولون مثل هذا الأمر يكونون عادة من كبار أساتذة الجامعات وبعض الموجهين والمستشارين، لكن من قال أن أساتذة الجامعات هم دائما أفضل من يعدون مناهج التعليم؟ إن للتعليم الجامعي منطقا في التفكير والبحث والقراءة يختلف كثيرا عن مثيله في التعليم العام، ومن هنا فقد لا ندهش إذا كان الانطباع غير جيد عن كتاب ألفه أستاذ جامعي كبير -أو أكثر- تماما كما نعلم أن الكتابة للأطفال -مثلا- قد لا يتقنها مؤلف كبير ومفكر عظيم.

ومشكلة كثير من الموجهين والمستشارين،

هي أنهم إذا كانوا يتفوقون على أساتذة الجامعات في تمرسهم بمشكلات الميدان وقربهم من عقول الطلاب والمعلمين، إلا أن الأعباء التنفيذية والعملية تحول بين كثيرين وبين متابعة التطور الحادث في المجال المعرفي الذي تخصصوا فيه، فتكون النتيجة معلومات ربما يكون الزمن قد تجاوزها.

والنتيجة التي تترتب على هذا وذاك، هي أن المعنيين بالدرجة الأولى بمحتوى المناهج ألا وهم المعلمون والطلاب، يقف الأمر بهم عند حد «التلقي» و«الاستقبال».. يظلون مفعولا بهم لا فاعلين، مع أن المعلمين هم الذين يقفون عند خط الإنتاج الأول، والطلاب هم القصد لكل ما يحدث تحت مظلة التربية والتعليم!

وعندما يكون نهج العمل هو ألا يكون «الفكر» منتجا يتم صوغه بالمشاركة، فإنه بذلك يرسخ لقيم القهر وإشاعة أخلاقيات المقهورين، بين شرائح مجتمعية ينظر إليها المجتمع بأنها شرائح التقدم والتنوير، وأنها طلائع النهوض والإصلاح، وأنها «قاطرة» التغيير والتجديد، لكنهم يجدون أن التعامل معهم لا يتم إلا باعتبار ما يجب أن يكونوا عليه من نسخ «كربونية»:

 تستنسخ ما هو قائم، ولا توجده

 تعيد إنتاج المعرفة ولا تستحدثها

  تقوم بدور «الشرح» و«التوضيح» لكنها تنأى بنفسها عن ممارسة النقد والتغيير!

«الدروس الخصوصية»

وقد يتصور القارئ أن «الدروس الخصوصية»، ربما تتيح ظروفا أفضل، بحكم ما هي عليه من طابع «حرية» و«خصوصية» وتعامل مادي «مالي» مباشر.. لكن هذا سرعان ما يتبدد إذا علمنا أن العكس هو الذي يحدث.

فالمعلم الذي يشعر بأن راتبه الذي يتقاضاه من الدولة أن من أصحاب المدرسة لا يكفيه، فيتطلع إلى الطالب كي يعينه على تحمل تكاليف المعيشة إنما يخطو أول وأكبر خطوة نحو مذلة العيش وقهر المال، فالمفروض أنه «أستاذ» و«معلم» للطالب، أي صاحب اليد العليا، لكن عندما يقوم الطالب بتزويد المعلم بالجنيهات التي توسع من سبل عيشه، يتحول البندول ليكون الطالب هو صاحب اليد العليا.

ربما يظل المعلم متظاهرا بأنه إذ «يُعلم» فهو بالتالي صاحب الفضل، لكنه في قرارة نفسه يعلم علم اليقين أنه لولا هذه الجنيهات التي يتلقاها من هذا الطالب وذاك ما استطاع أن يعيش كما يريد أن يعيش ولا استطاع أطفاله أن يجدوا ما هم بحاجة إليه من قمة عيش!

أما الطالب نفسه،

فإنه إذا كان يشعر في قرارة نفسه أنه قد أصبح صاحب فضل على المعلم، إلا أن تعاطيه الدروس باستمرار يعوده على السلبية، بل إن قيام هذه الدروس إعلان واعتراف من جميع الأطراف:

المعلم، وأولياء الأمور، والمجتمع، والطالب نفسه،

بأن المتعلم قد أصبح عاجزا عن أن يقوم بأمر نفسه.. على أن يمارس تعلما ذاتيا.. على أن يعتمد على نفسه، وما أنسبها تلك من تربة لبث أخلاقيات المقهورين.

إن مثله مثل هذا المغنى الذي عجب له بعض الأجانب عندما سمعوه يغنى «يا مين يجيب لي حبيبي»؟ متسائلين بدورهم: ولم لا ينهض هو بإيجابية ويبحث عن حبيبه؟!!