رابعاً: معالم التجديد وجوانبه عند الشيخ القرضاوي«4»

منهج الإمام القرضاوي في الفتوى «2»

إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح

 إنني لا أرضى أبدا طريقة بعض العلماء قديما وحديثا في جواب السائلين: بأن هذا يجوز وهذا لا يجوز… وهذا حلال وهذا حرام… أو حق وباطل، طلبا للاختصار،

وعدولا عن الإطالة، ليفرق بين الفتيا والتصنيف وإلا لصار المفتي مدرسا حتى ذكر ابن حمدان في كتابه:

«صفة الفتوى والمفتي والمستفتي» أن بعض الفقهاء قيل له: أيجوز كذا. فكتب: لا!

وهذا إن جاز مع بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال، لا يجوز أن يكون قاعدة فيما يذاع على جمهور الناس، أو يكتب في صحيفة أو مجلة أو كتاب، يقرؤه الخاصة والعامة.

والحق أني أعتبر نفسي عند إجابة السائلين مفتيا، ومعلما، ومصلحا، وطبيبا ومرشدا.

وهذا يقتضي أن أبسط بعض الإجابات وأوسعها شرحا وتحليلا، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علما والمؤمن إيمانا.

إن هذه المنهجية العلمية المنضبطة تعتبر روحا جديدة في منهج الفتوى المعاصرة، وقد لاقت قبولا واسعا في العالم الإسلامي كله، بعكس غيرها من طرق الإفتاء التقليدية المذهبية أو التي غلب عليها التشديد أو البعد عن الواقع أو المخاطبة بلغة غير عصرية، ولذا أفتى الشيخ للمسلمين في بلاد الغرب وأفتى لهم في بلاد الإسلام، أفتى للشباب وللنساء وللطلاب وللعمال وكافة الناس بعلم ودراية فكان منهجا جديرا بأن يدرس في دور الإفتاء وكليات الشريعة ويعتمد في الفتوى المعاصرة للمسلمين.

ولست هنا راغبا في ذكر نماذج من فتاوى الشيخ بنصها فهذا أمر ربما لا تحتمله طبيعة البحث ولكنني سأذكر رؤوس فتاوى كنموذج على الفقه الحي المعاصر الذي يمثل نموذجا للتجديد في الفتوى عند الشيخ رحمه الله.

فتاوى التجديد في فقه الأقليات

من ذلك الفتاوى والبحوث التي قدمها الشيخ للمسلمين في الغرب بضرورة توطين الوجود الإسلامي لتحسين الصورة الإسلامية وللقيام بواجب الدعوة ولاستقبال المسلمين الوافدين كل ذلك كان خلافا للمتشددين الذين كانوا يفتون الناس بحرمة الإقامة في بلاد الغرب للمسلمين، ولو تأملنا ذلك لوجدنا أن صنيع الشيخ ومن تبعه من العلماء في توجهه أثمر ثمرات غيرت الحال بالنسبة لواقع المسلمين في الغرب، بل إنني أقول عن الصياغة الاجتماعية والدينية للمسلمين في الغرب إنما قامت في جملتها على كثير من فكر الشيخ وتوجيهاته وفتاواه، فمما ذكره في هذا الصدد يجمل فيه شيئا من احتياجات المسلمين في الغرب وما ينبغي عليهم القيام به:

وقد قلت للإخوة في ديار الغربة:

حاولوا أن يكون لكم مجتمعكم الصغير داخل المجتمع الكبير، وإلا ذبتم فيه كما يذوب الملح في الماء.

اجتهدوا أن يكون لكم مؤسساتكم الدينية، والتربوية، والثقافية، والاجتماعية، والترويحية، وهذا لا يتم إلا بالتحاب والتعاون، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ويد الله مع الجماعة.

إن الذي حافظ على شخصية اليهود طوال التاريخ الماضي هو مجتمعهم الصغير المتميز بأفكاره وشعائره، وهو (حارة اليهود)، فاعملوا على إيجاد (حارة المسلمين).

لا أدعو إلى انغلاق على الذات، وعزلة عن المجتمع، فهذا والموت سواء، ولكن المطلوب هو انفتاح دون ذوبان،

هو انفتاح صاحب الدعوة الذي يريد أن يفعل ويؤثر، لا المقلد المستسلم الذي غدا كل همه أن يساير ويتأثر، ويتبع سنن القوم شبرا بشبر، وذراعا بذراع!

نزيف العقول العربية والإسلامية

إننا نشكو من مدة من نزيف العقول العربية والإسلامية، من العقول المهاجرة من النوابغ والعبقريات في مختلف التخصصات الحيوية والهامة، التي وجدت لها مكانا في ديار الاغتراب، ولم تجد لها مكانا في أوطانها.

فإذا كانت هذه حقيقة واقعة، فلا يجوز لنا بحال أن ندع هذه العقول الكبيرة تنسى عقيدتها، وأمتها وتراثها، ودارها، ولا مفر لنا من بذل الجهد معها حتى تكون عقولها وقلوبها مع أوطانها وشعوبها، مع أهليهم وإخوتهم وأخواتهم، دون أن تفرط في حق الوطن الذي تعيش فيه وتنتسب إليه.

وإنما يتحقق ذلك إذا ظل ولاؤهم لله ولرسوله وللمؤمنين، وظلت هموم أمتهم تؤرقهم، ولم تشغلهم مصالحهم الخاصة عن قضايا أمتهم العامة، كما يفعل ذلك يهود العالم أينما كانوا من أجل إسرائيل.

وهذا هو واجب الحركة الإسلامية: ألا تدع هؤلاء لدوامة التيار المادي والنفعي السائد في الغرب، تبتلعهم، وأن يذكروا دائما بأصلهم الذي يحنون دائما إليه.

وإذا كان الوجود الإسلامي قائما في بلاد الغرب، وله حضوره الديني والثقافي والاجتماعي، وأحيانا الاقتصادي، فمن الطبيعي والمنطقي أن يحاول استكمال حضوره السياسي.

إذ أصبحت السياسة تتدخل في كل شيء، وإذا تركنا السياسة، فإن السياسة لا تتركنا.

الإجابة على تساؤلات

لهذا كان لا بد من الإجابة على تساؤلات عدة هنا تطرحها الأقليات الإسلامية التي تعيش في الغرب، وبعضها من أهل البلاد، وبعضها مهاجرون استوطنوا وحصلوا على جنسية البلاد، وباتوا جزءا من أهلها.

هل تكتفي بالدين وتنعزل عن السياسة؟ أو تتمسك بالدين وتدخل في السياسة؟

 وإذا دخلت في السياسة فهل تدخل فيها مشاركة لغيرها من الأحزاب، أو مستقلة بذاتها؟

فهل يجوز المشاركة في الأحزاب العلمانية؟

وهل يجوز إنشاء حزب يفرض عليه أن يلتزم بدستور البلاد؟

وهلْ يجوز للمسلم الترشح للمجالس النيابية على أساس هذه الأوضاع؟ ثم إن دخول المسلم في السياسة، يلزم منه الإقرار بالدساتير الوضعية القائمة في الدول الغربية وغيرها؟

وإذا نجح المسلم في الانتخابات، ودخل المجلس النيابي: يلزم منه أن يقسم على احترام النظام العام والعمل بالدستور، فهل يتفق هذا مع عقيدة الإسلام؟ ومع أحكام الشريعة؟

هذه تساؤلات تطرح في ساحة الأقليات في كل مكان في أوربا وغيرها.

بل أقول: إن هذه التساؤلات نفسها تطرحها بعض الفصائل الإسلامية في كثير من أقطار الإسلام ذاتها.

ومن هذه الفئات:

من يرى تحريم تكوين الأحزاب السياسية، ويعدها بدعة محدثة، وضلالة في الدين. ومنهم من يرى تحريم الدخول في الانتخابات،

والسعي إلى عضوية المجالس النيابية، بل بعضهم يراها ضد العقيدة، ويسميها (المجالس الشركية) وبعضهم ألف رسالة سماها (القول السديد في أن دخول المجلس (النيابي) ينافي التوحيد)!

وبعضهم يعترض على صيغة القسم التي يقسمها الأعضاء على احترام الدستور، وإطاعته إلخ. وبعض الإسلاميين حل هذا الإشكال، بقوله بعد كلمة الطاعة في القسم: (في غير معصية)، يقولها بصوت مسموع.

 فإذا كان هذا يقال في داخل بلادنا الإسلامية، فماذا عسى أن يقال في خارج البلاد الإسلامية؟

ومن هنا لا ينبغي أن تستمد الأقلية المسلمة فقهها السياسي من هذه الفئات التي بعد بها (الغلو) عن سواء الصراط،

فهذه الفئات ترى الوجود الإسلامي في هذه البلاد محظورا لا يجاز إلا من باب الضرورات،

وهي ترى العيش في هذه البلاد من باب الاضطرار، كما يضطر المرء إلى استخدام المراحيض، برغم ما بها من نجاسة! كما قال بعضهم!

 ومن هؤلاء من يحرم على المسلم الحصول على جنسية هذه الدول، وقد يكفر من حصل عليها،

لأنه يعتبرها من الولاء للكفار، وقد قال تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنّه منهم).

 ومنهم من يحرم مجرد الإقامة في هذه البلاد إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.

ولهم في ذلك شبهات رد عليها المحققون من العلماء.

إن مزية الشريعة الإسلامية:

 أنها شريعة واقعية، تراعي حاجات الإنسان ومطالبه، روحية كانت أو مادية، دينية كانت أو سياسية، ثقافية كانت أو اقتصادية،

سواء كان يعيش في المجتمع المسلم أم خارج المجتمع المسلم، وأنها في كل ما شرعته من أحكام:

تيسر ولا تعسر، وترفع الحرج، وتمنع الضرر والضرار، ولا سيما من يعيش خارج المجتمع المسلم، فهو أولى بالتخفيف ورعاية الحاجات.

 ومن حاجة الأقلية المسلمة:

أن تعيش متمسكة بدينها وعقيدتها وشعائرها وقيمها وآدابها، ما دامت لا تؤذي غيرها، وأن تندمج في المجتمع الذي تحيا فيه، تنتج وتبدع، وتبني وترقى،

وتشارك في كل أنشطته، تفعل الخير، وتشيع الهداية، وتدعو إلى الفضيلة، وتقاوم الرذيلة،

وتؤثر في المجتمع بالأسوة والدعوة ما استطاعت، ولا تذوب فيه، بحيث تفرط في مقوماتها وخصائصها العقائدية والدينية.

وليست كل الأقليات الإسلامية مهاجرة، فبعضها من أهل البلاد الأصليين، كلهم أو بعضهم. حتى يقول بعض الناس: يجب أن يعودوا إلى ديارهم.

 ولهذا تحتاج الأقلية في أي بلد إلى أصوات تعبر عنها في المجالس التشريعية، وتدافع عن حقوقها حتى لا تصدر تشريعات تجور عليها،

وتحرم عليها ما أحل الله، أو تعوقها عن أداء ما فرض الله، أو تلزمها بأمور ينكرها الشرع.

ومن الخير وجود مسلمين منتخبين في هذه المجالس مستقلين أو منضمين إلى حزب معين يعملون للذود عن حرماتهم، والمحاماة عن حقوقهم، باعتبارهم أقلية،

لهم الحق في ممارسة حياتهم الدينية، وشعائرهم التعبدية، بما لا يضر الآخرين،

وهم سيستميلون معهم وإلى صفهم الأحرار والمنصفين، الذين يناصرون العدل والحرية في كل زمان ومكان.

فالشيخ جدد في الفقه الإسلامي في الجوانب التالية:

جانب الفهم والتلقي حيث تقبل الفقه بروح غير روح التقليد ونمط الاتباع الأعمى مع احترامه للمذاهب ورجالاتها.

جانب العرض والتعليم حيث ركز على الأصالة المنطلقة من «الوحيين» والمعاصرة التي تخاطب الناس بلغة عصرهم وتعالج قضاياهم الواقعية.

التركيز على الحكم والأسرار والعلل ومخاطبة العقل والروح.

التيسير في الفتوى وحمل الناس على أن يبقوا في دائرة الشرع.

ثم جانب الصياغة المكتوبة حيث أعاد كتابة أبواب هامة من الفقه الإسلامي عالج فيه قضاياها بصورة معاصرة وفق المنهجية التجديدية التي انتهجها،

فكتب فقه الزكاة، وفقه الصيام، وفقه الجهاد، وفقه الغناء والموسيقى، وفقه اللهو والترويح،

وكتب في مسائل مستقلة في الاقتصاد الإسلامي بعقلية غير مسبوقة ككتابه في بيع المرابحة وفوائد البنوك وغير ذلك.