الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ليكون للعالمين نذيرا والصلاة والسلام على رسول الله الأمين الهادي بالحق إلى صراط مستقيم علما وعملا حتى قالت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن أخلاقه (كان خلقه القرآن) صحيح الجامع / الألباني

والقرآن الكريم هو كلام الله تعالى لعباده فيه الهداية والنور والبشرى للمؤمنين  كما يتضمن النذارة لمن خالف أمره فمن تمسك به كان من أهل الفوز والنجاة في الدارين ومن أعرض عنه كان عرضة للغواية والضلال وقسوة القلب وضنك الحياة والشقاء الأبدي بعد الممات قال تعالى

 {وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَة ضَنكا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ}

 طه/124

وقد اشتمل القرآن الكريم على جملة من القضايا الغيبية الإيمانية كالإيمان بالله وملائكته والجنة والنار والحساب

وما يتبعه من ثواب وعقاب و تضمن الأحكام الشعائرية التعبدية مثل أحكام الصلاة والصيام والحج

كما تناول قضايا المعاش والعمران وأحكامها السياسية والاجتماعية والاقتصادية

كل ذلك مصحوبا بما يتعلق بالأخلاق وتزكية النفوس وتطهيرها

فهو كتاب الحياتين (الدنيا والآخرة)

والمطلوب الدخول فيه بالكلية استسلاما لله وطاعة لأمره قال تعالى

{قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ * لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ}

 الأنعام ١٦2/-١٦٣]

ولما كان القرآن الكريم كتاب الحياة فقد أحيا الله به قلوبا ميتة وذكر به نفوسا غافلة وشاردة

وهيأ به شعوبا وقبائل لقيادة البشرية وأسعد به بعد الشقاء وأراح به بعد التعب

وكان فرقانا بين أهل الحق والباطل وبين من يمشي مكبا على وجهه ومن يمشي سويا على صراط مستقيم قال تعالى

{أَوَمَن كَانَ مَیۡتا فَأَحۡیَیۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورا یَمۡشِی بِهِۦ فِی ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ لَیۡسَ بِخَارِج مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُیِّنَ لِلۡكَـٰفِرِینَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ}

 الأنعام/122

{أَفَمَن یَمۡشِی مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِۦۤ أَهۡدَىٰۤ أَمَّن یَمۡشِی سَوِیًّا عَلَىٰ صِرَٰط مُّسۡتَقِیم}

 الملك/22

ولما كان القرآن بهذه المكانة والمقام الرفيع فقد وجب لزوم مدارسته ومعرفة أحكامه والزام أوامره علما وعملا دون ملل ولا كلل يقول الإمام الشاطبي:

(إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة الملة وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة

وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا)

مختصر الموافقات 283

وعندما يكون القرآن هو الأنيس والجليس

فمعنى ذلك الاستمرار في تلاوته وتدبره وحفظه ومراجعته وتحكيمه في الخاص والعام والدعوة إليه ونشره بين العالمين

والخلاصة أن يكون القرآن هو (مركزية الحياة كلها) والتماس الهدايات الكبرى من آياته ودلالاته قال تعالى

{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ وَیُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرا كَبِیرا}

 الإسراء/9

ولما تلقى الرسول الأعظم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم القرآن بهذه المنهجية أحدثوا تحولا عالميا في البشرية كلها

وهو ذات النهج المطلوب لاستعادة مركزية الأمة المسلمة عبر مركزية القرآن الكريم

وكما يقال (الحدوث دليل الإمكان) يقول الدكتور الراحل / فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

(ولقد أجمع السابقون واللاحقون على أن المنهج إنما هو ما كان عليه محمد وأصحابه من أمر القرآن, فمن ذا الذي يصبر عليه؟

وإنما هو تلق للقرآن آية آية, وتلق عن القرآن حكمة حكمة, على سبيل التخلق الوجداني,

والتمثُل التربوي لحقائقه الإيمانية العمر كله, حتى يصير القرآن في قلب المؤمن نفساً طبيعياً,

لا يتصرف إلا من خلاله ولا ينطق إلا بحكمته, فإذا بتلاوته على نفسه وعلى من حوله غير الناس,

وإذا بحركته في التاريخ غير حركة الناس)

 مجالس القرآن ج/1/10.

وقد كان جبريل عليه السلام يدارس النبي القرآن في كل عام في شهر رمضان المبارك وفي ذلك تأكيد على أهمية المدارسة الجماعية

وأهمية وجود من يتلقى عنه طالب العلم من أهل العلم ونقلة الرسالة

وبطبيعة الحال فإن المدارسة والقراءة لكتاب الله تعالى تأخذ طرقا متعددة تلاوة وتدبرا وحفظا

كما  قاله علم الدين السخاوي:

(وأعلم أن القرآن العزيز

 1/ يقرأ للتعلم فالواجب التقليل والتكريم

 2/ ويقرأ للتدبر فالواجب الترتيل والتوقف

 3/ ويقرأ لتحصيل  الأجر بكثرة القراءة فله أن يقرأ ما استطاع ولا يؤنب إذا أراد الإسراع)

جمال القراء وكمال الإقراء / 666

وأما عن أخلاق وصفات حملة القرآن

فقد لخصها  عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في قوله

«ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ونهاره إذا يفطرون وببكائه إذا الناس يضحكون وبورعه إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون وبحزنه إذا الناس يفرحون»

ومحصول القول فإن القرآن الكريم هو مربي الأجيال المسلمة ومعلمها ومؤسس دولتها الأولى بقادة النبي وخلفائه وصانع الحضارة الإسلامية بقيمه وأحكامه وتوجيهاته

وهو الذي يجب العودة إليه لتجديد فاعلية الأمة المسلمة ودورها الريادي بين الأمم

وبغيره لن تعيد الأمة مجدها ولن تعتز بهويتها بل ستظل أمة تابعة ذليلة تتسول منتجات الأمم الأخرى بعيدا عن الهدي الرباني قال تعالى

{یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَحُولُ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ}

الأنفال/24

والحمد لله رب العالمين

من د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث وكاتب في الفكر الإسلامي