السخرية والاستهزاء والكذب والزيف منظومة تعيد نفسها في كل زمان ومكان ومع كثير من الأشخاص والعقول.

فالتاريخ يعيد نفسه في كل شيء، وفي أزمان متقاربة، يمكن أن ترى نفس الموقف يتجدد، ونفس الحادثة تُعاد.

في مشهدنا الثقافي والمعرفي،

نرى أناسا يستعرضون عضلاتهم العلمية والعقلية، حتى أن الدائرة تفلت منهم فيوسعون ضيقا، لقد خرج علينا ذلك المدعو بالشيخ خالد الجندي عام 2020م،

وهو يصف نفسه ويزكيها، ويزعم أنه قرأ ربع مليون مجلد، 250.000 مجلد، هل تتخيل؟!

لقد كانت فضيحة مدوية وكذبة فجة، نطق بها رجل غلبه التضليل والهوى، فحاول أن يستعرض عضلاته فأضحك الناس عليه.

رد عليه الشيخ الحويني وقال: أنا لا أعلم في الدنيا أحدًا قرأ ربع مليون مجلد، وجلست أحسبها مع نفسي، فقلت له أنه قرأ في اليوم الواحد مجلد أي 500 صفحة،

وهذا لا يمكن أن يتحقق أبدا ولو حصل لما فهمه كله، ولو حدث هذا فهل تعلم كم يكون عمره؟ ان عمره يبلغ 600 سنة.

ضحكت الدنيا على هذه الشطحة الكاذبة من هذا الدعي، الذي يرجع عمره بهذه الحسبة إلى زمن العصور الوسطى.

والحقيقة أن نادرة الشيخ الجندي

لم تكن فريدة من نوعها، فقد كان هناك من أقدم على مثل هذه الكذبة العجيبة،

فقد حكى الأستاذ عبد الوهاب مطاوع أنه كان يسهر مع بعض أصدقائه من الأدباء والفنانين بمقهى الفيشاوي، يتسامرون في الأدب والفن وأحوال الناس،

وكان يجلس معهم شاب من هواة الادعاء الثقافي، فقال لهم في اندفاعة ثقافية ذات ليلة: لقد قرأت حتى الآن 20 ألف كتاب!،

ثم نظر إليهم متربصا لأية محاولة لتكذيبه، ومع أنه لا يبدو عليه أنه استوعب معارف 50 كتابا،

قاوم الأستاذ عبدالوهاب رغبته في الضحك وسكت،

لكن عقلة الرافض للخرافات أبى أن يسكت، فراح يفكر ويحسب،

ووجد أنه رغم إدمانه للقراءة منذ صباه، لا يكاد يقرأ من 60 أو 70 كتابا كل عام،

إلى جانب شواغله وواجباته الأخرى، أي أنه يقرأ كل عشرة أعوام من عمره 700 أو 800 كتاب لا أكثر،

وصديقه هذا كان في الخامسة والثلاثين من عمره، ولديه عمله وليس معروفا عنه أنه منقطع للقراءة، إذن فغن عمره يكاد يصل ليكون 200 سنة!

وسعد مطاوع بهذه النتيجة وإذا به يصيح ويقول له:

الله أكبر يبدو أنك من سلالة سيدنا نوح الذي عاش 950 سنة؟

وأخذ يشرح للأصدقاء فكرته فانفجروا ضاحكين،

وأصبح هذا الصديق بعد ذلك يلقبونه بابن سيدنا نوح.!

لكن ماذا لو عاش مطاوع وسمع كلام الشيخ خالد الجندي،

لا سك أنه سيرى أن الجندي عاش أكثر من سيدنا نوح نفسه وتفوق عليه في العمر وعدد السنين.

إن استعراض العضلات على الناس بهذا التعالم والادعاء الكاذب، لا يمنح صاحبه رتة، فربما يكون قد قرأ مئات الكتب، لكنه كالحمار يحمل أسفارا.

إن التاريخ أعاد نفسه، ولكنه أعاد الصورة أكثر اتساعا وأشهق كذبا،

وبدلا من أن يجني صاحبنا القديم والحديث احترام الناس وتقديرهم،

سخريتهم واستهزاءهم، بل نال الانتساب لسلالة نوح عليه السلام.

وثقافة الإنسان ليس بحجم ما قرأ ودرس، ولكن بحجم ما فهم ووعى وفقه،

ولعمري أن رجلا يسوقه الهوى للكذب والزيف لا يمكن أبدا أن يكون تثقف بشيء أو اهتدى لرشد، فما قرأ من القليل أو الكثير لعنة عليه.