هزَّ مقتل فتاة ضميرَ السوريين وروّعهم رَوعة شديدة وأثار بركاناً من الغضب لم يهدأ حتى الآن،

وفتح صندوقاً أسود طال غَلْقُه وتأخر فتحه، وجدّد التذكير بآفة اجتماعية مزمنة آن للعقلاء والدعاة والمصلحين أن يعالجوها وأن يقرّروا بلا مواربة:

إن ما يسمى «جرائم شرف» في بعض المجتمعات الشرقية لا يختلف عن أي جريمة وحشية بشعة ينبغي أن يعاقب عليها القانون بأقسى العقوبات.

بعيداً عن المعالجة الاجتماعية والنفسية للمشكلة رأيت من واجبي أن أكتب هذا التوضيح الشرعي،

مقتصراً على مسألة جوهرية واحدة: هل يجوز قتل أي إنسان في أي حال من الأحوال بلا محاكمة وبالقرائن الظنّية؟

الأصل في الإسلام أن النفس مَصونة، فلا يهدَر الدم في السلم إلا في حد أو قصاص، ولا يهدَر في الحرب إلا في القتال. والفرق بين الحالتين كبير،

ففي الحرب يقاتَل المقاتل ويقتَل إذا تمكنّا منه لأنه متلبّس بنية القتل مذ حمل السلاح ودخل الميدان، فلو تركناه حتى نتحقق من نيّته واختياره فإنه قد يبادر إلى قتلنا،

فوجب أن نبادره نحن بالقتل لدرء الخطر عن أنفسنا ولتحقيق الغاية التي من أجلها قامت المعركة، وهي الانتصار على العدو.

أما في السلم فإن الدماء لا تهدَر إلا بقضاء، ولا ينفذ الحكمَ إلا الإمامُ أو مَن ينوب عنه من شرَط وأعوان.

وقد غلّظ فقهاؤنا في إثبات الجريمة الموجِبة للدم -من الحدود والقصاص-

لما للدم من خطورة خاصة تتطلب توقف الحكم على ثبوت الجريمة ثبوتاً قطعياً مؤكداً،

فنَصّوا على أن العقوبة لا توقع على المتهم إلا بإثبات شرعي، ثم حصروا طرق الإثبات المعتبَرة شرعاً في ثلاثة أمور:

(1) الإقرار،

وهو حجة قاصرة على المقِرّ لا يتعدى أثرُها إلى غيره، ويؤخَذ به لأن الإنسان غير متّهَم على نفسه. وقد اتفق العلماء على صحته بحق البالغ العاقل المختار،

وقالوا: يشترَط في الإقرار بالجريمة أو الجناية الموجبة لحد أو قصاص أن يكون واضحاً مفصلاً قاطعاً في الاعتراف بارتكاب الجرم عمداً،

فلا يصح الإقرار المجمَل الغامض المشتمل على شبهة، كما لا يصح إقرار المستكرَه (فلا قيمة لإقرار انتُزع تحت التعذيب والتهديد).

(2) الشهادة،

واشترط فقهاء المذاهب الأربعة في الحدود والجنايات والقصاص شهادة رجلين عَدلين لخطورتها وضرورة التأكد من ثبوتها وتضييقاً لطرق إثباتها.

واشتراطُ العدالة في الشاهدين أمر دقيق يطبقه القاضي بحذر ويتوثق منه ليُخرج احتمال الكيد والخطأ.

أما في إثبات الزنا خاصة فتُشترَط شهادة أربعة شهود عدول،

واشترطوا لصحة الشهادة في هذه الحالة شروطاً (تجدون تفصيلها في كتب الفقه) تكاد تبلغ درجة الاستحالة والتعجيز.

(3) القرينة،

كرائحة الخمر في فم الرجل فإنها قرينة تدل على شرب المُسكر. ولأن القرائن تغلب عليها الظنّية

فقد قرر جمهور الفقهاء أنه لا يحكَم بها في الحدود، لأن الحدود تدرَأ بالشبهات، وقاسوا عليها القصاص للاحتياط في أمر الدماء.

وذهب ابن القيم وتابعه جماعة من الحنابلة، وابن فرحون وتابعه جماعة من المالكية، إلى الأخذ بالقرائن في تلك الحالة مع التحفظ والحذر،

ولا يقرر ذلك إلا القاضي المتمرس، وذهب الحنفية إلى اعتبار القرينة إذا كانت قطعية، وهي عندهم «الأمارة البالغة حد اليقين».

من محمد أبو صهيب

كاتب وباحث