أول ما عرفت أستاذنا القرضاوى في أيام شبابي الأولى كان من خلال نونيته الشهيرة «نافذة على الجحيم» وكان شباب جيلنا في تلك الأيام يحفظها ويرددها فنشعر فيها بتلك العزة والثبات والقوة التي تشيع بين ثناياها ولم يكن مسموحا في تلك الأيام بطباعتها فكنا نطوى عليها ذاكرتنا ونرددها في المناسبات كنشيد نرفع به هممنا- ولازلت أردد أكثر أبياتها لم تمحها السنون من ذاكرتي رغم مرور أكثر من خمسين سنة على تلك الحكايا- والشيخ شاعر مبدع ولكنه يمتثل قول الشافعي

ولولا الشعر بالعلماء يزرى ::: لكنت اليوم أشعر من لبيد

ثم عرفنا كتابه الشهير «الحلال والحرام» وكان الكتاب باكورة دخول الشيخ عالم التصنيف وقد طبع طبعته الأولى عام 1960 وهو كتاب من أبدع ما يكون يستفيد منه المبتدئ والعالم وقد دخلنا من هذا الكتاب إلى عالم الشيخ القرضاوي الموسوعي

وكانت كتابات الشيخ هي أهم مراجعنا في كتاباتنا عن مبادرة وقف العنف منذ أكثر من عشرين سنة وقد أخذنا فصلا كاملا من أحد كتبه في كتابنا «ظاهرة الغلو في التكفير»

والشيخان القرضاوي والغزالي هما درة العلماء في عصرنا هذا فكلاهما كان من العلماء المبدعين ذوى العقلية الخلاقة المبتكرة المعتدلة واللذين حملا أعباء الدعوة والتوجيه للشباب خلال العقود السابقة وبذلا في سبيل ذلك أعظم بذل وتحملا المشاق والبلاءات وكانت كتاباتهما ومحاضراتهما وانغماسهما في قضايا أمتهم نبراسا أضاءا الطريق أمام شباب الصحوة دون إفراط ولا تفريط

أزهريتهما

كلا الشيخين كان أزهريا عتيدا معتزا بأزهريته وترسخت فيهما سمات وصفات أزهريه انعكست على شخصيتهما وكتاباتهما

لم يهتم الشيخ الغزالي بجمع ما تعرض له من أسئلة وما أفتاه من فتاوى في مسائل الفقه المتنوعة التي تعرض للناس إذ كان اهتمامه منصبا على معالجة أمراض الأمة والتماس الدواء لها والحديث في كليات الشريعة وتبصير الناس بها ولم يشأ أن يبذل من وقته وجهده ما يجمع به شتاتا من تساؤلات الناس الشخصية والتي امتلأت بكتاباتها كتب سابقيه

بينما أضاف الشيخ القرضاوي إلى مكتبته العامرة كتابا رائعا جمع فيه قبسا من فتاواه وسماه «فتاوى معاصرة» ظهر فيه السمت الأزهري في التنوع والاستدلال ودقة النظر فكانت دراسات فقهية عصرية كما وصفها يدرسها طالب العلم ليتعلم منها نظر العلماء وليست مجرد كلمات مقتضبة -كما يفعل البعض- أشبهت تعليمات الضابط إلى جنوده افعل أو لا تفعل وهذا حلال وذاك حرام دون شرح ولا توضيح ولا استدلال

وقد اهتم الشيخ بمسألة الإفتاء خاصة في محدثات النوازل وشارك في العديد من المؤتمرات الفقهية وقدم فيها دراسات قيمة وأنشأ وساهم في إنشاء مؤسسات الفتاوى للتصدي لهذا الجانب العلمي وأبرزها مؤسسات لتفتى الناس في البلاد غير الإسلامية وما يعن لهم من نوازل حديثة لم تسبق من قبل بفتوى..

وللشيخ كتابات في مجال مسائل الفقه التقليدية مثل كتابه المبدع في فقه الزكاة الذي أجاب فيه بما يغنى عن أكثر المحدثات في هذا الباب وكتابه الحلال والحرام وغيرهما

وقد اتسمت كتاباته في الفقه

بالشرح والتفسير وحسن الاستدلال والوسطية في اختياراته الفقهية وسهولة العرض والبعد عن التعقيد وهى سمات اكتسبها من دراسته الأزهرية وشيوخه الذين سبقوه ولا يستطيع من يقرأ كتابات الشيخ القرضاوي واختياراته الفقهية إلا أن يشهد له ببراعة الاستدلال ودقته وسلفيته في الاستدلال والعرض حتى وان اختلف معه

والشيخ الغزالي وإن كان سلفي العلم والمنهج إلا أنه لم يكن يشغل نفسه كثيرا بكتابة تحقيق أحاديثه ونسبة النصوص إلى مصادرها مكتفيا بثقة الناس في أنه لا يستدل بما لا يصلح للاستدلال ولن يدلس أو يدعى ما ليس صحيحا خاصة وأن عامة من يقرأون تلك الكتب لا يشغلهم كثيرا هذا الأمر وربما تعوقهم تلك التفاصيل عن متابعة موضوع الحديث وربما دخل بعض شانئيه إليه من هذا الأمر..

ولكن الشيخ القرضاوى كان يهتم بذلك ولم يفلح مخالفوه أن ينفذوا إليه من حديث اختلفوا في صحته أو نقلا زعموا عدم دقته إذ كان يدقق فى ذلك كثيرا ويعطيه كثيرا من وقته

رحم الله الشيخين فقد أتعبا من بعدهما

من د. أيمن صالح

أستاذ أصول الفقه