كان إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة من تلاميذ الإمام مالك،وروى عنه وعن حماد بن زيد كثيرًا من الأحاديث، رضي الله عن الجميع. وقد أسلم «المُغيرة» جد إسماعيل، على يد اليمان الجعفي، فنسبوه إليه، فكان يُقال له: إسماعيل بن إبراهيم بن المُغيرة الجعفي.

ولم تكن زوجة إسماعيل بأقل منه صلاحًا، بل ثبتت لها كرامة تواتر ذكرها في كتب المُؤرّخين، وهى أن طفلها الصغير -محمدا- فقد بصره، فدعت الله تعالى أن يرده عليه، وذات ليلة أتاها أبونا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، في المنام، وبشّرها بأن الله تعالى قد استجاب لكثرة دعائها، واستيقظت لتجد الغلام مُبصرًا بقدرة الله وحوله وقوته.

وبعد وفاة زوجها حرصت على تعليم الصبى، فأرسلته إلى مكتب التحفيظ ببلدها بخارى -مدينة تقع الآن في جمهورية أوزبكستان بآسيا الوسطى- وهناك أتم محمد حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ العاشرة من عمره. ولأن «كُل مُيسّر لما خُلق له» كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم، في حديث رواه البخاري نفسه.

فقد ظهرت عليه علامات النبوغ المُبكّر، ورزقه الله تعالى ذاكرة حديدية نادرة، وألهمه حفظ الأحاديث النبوية الشريفة، فلزم مجالس المُحدّثين، وأخذ عنهم كل ما في جعبتهم، وكان يحفظ من الأحاديث الشريفة في أيام ما يستغرق غيره فيحفظه شهورا وسنوات، ولا يكتب عند شيوخه، بل يسمع منهم مرة واحدة، فيحفظ ما سمعه فورا عن ظهر قلب، ويكتب رفاقه، ثم يُراجعون ويُصحّحون ما كتبوا على ما حفظ البخاري.

وكان ينظر في أي كتاب مرة واحدة، فيحفظه فورًا لا يُسقط منه كلمة! ومن العجائب التي وقعت للنابغة الصغير أنه ردّ على أحد شيوخه الكبار، وصحّح له إسناد حديث، وكان -حينها- في سن الحادية عشرة. وكان المُعلّم هو «الداخلى» أحد أئمة الحديث في «بخارى» في ذلك الوقت، فنهر الصغير، لكن محمدا لم يسكت، وقال لشيخه بشجاعة وثبات: ارجع يا أستاذنا إلى الأصل المكتوب، إن كان عندك.

ودخل الرجل منزله، وراجع النسخة المكتوبة، فوجد سلسلة رواة الحديث بالضبط كما قال تلميذه، فأثنى عليه، ودعا له..

ومن البشريات أيضا ما جرى له بمجلس أحد كبار علماء المنطقة، إذ سأل أحد الحاضرين الصبي عن عدد ما كتب في ذلك اليوم من أحاديث نقلا عن شيخه، فأجاب البخاري: كتبت حديثين، فضحك بعضهم -وكأنه يحسبون ما كتب قليلا-

فقال لهم الشيخ ذو البصيرة المُضيئة: «لا تضحكوا منه الآن، فلعلّه يضحك منكم يوما» وبالفعل أصبح البخاري أحد أعلام الإسلام، بينما لا يعرف أحد أسماء من ضحكوا منه فيصغره!.. وكذلك توسّم فيه الإمام أبو حفص أحمد بن حفص الخير، وقال لمن حوله ذات مرّة -بعد انصراف البخاري-:

«هذا شاب كيّس، أرجو أن يكون له صيت وذكر»

وبالفعل وقع ما أخبر به الرجل المُلهم! ودعا له أحد شيوخه -عبد الله بن منير- وهو من كبار الزاهدين الصالحين قائلا: «يا أبا عبد الله، جعلك الله زين هذه الأمة»

ويرى الإمام الترمذي أن الله تعالى: «قد استجاب له فيه».

 ومن البشارات كذلك، أنه عندما دخل الصغير البخاري على المُحدّث الجليل سليمان بن حرب، نظر إليه طويلا،

وقال لمن حوله: «هذا يكون له يوما صوت».. وصدقت فراسة العالم الرباني، فلم تمض إلا سنوات،حتى صار البخاري ملء السمع والبصر.

زرع الله عشق العلم في صدر الفتى، فلم يبلغ 16 سنة حتى كان قد حفظ كُتُب عبد الله بن المُبارك ووكيع بن الجَرّاح وغيرهما من كبار علماء السلف رضي الله عنهم أجمعين.

ومن تدبير الله للبخاري كذلك، أن أباه كان ميسور الحال، وترك له مالا حلالا يكفي لتغطية نفقاته الضرورية،وبهذا تفرّغ لطلب العلم.

ويُروى عن أبيه أنه قال قبل موته: لا أعلم في مالي درهمًا واحدًا من حرام. ولعل الله تعالى قد بارك له في ذريته بهذا.

وعندما بلغ البخاري17 سنة خرج مع أمه وأخيه إلى مكة المُكرّمة، لأداء فريضة الحج، ولم يُهدر الفرصة السانحة لتلقّى العلم على أيدي فحول البلد الحرام، فبقى بها، وعاد أخوه بأمّه إلى بخارى.

وخلال سنوات جمع رضي الله عنه ما لدى المكيين ثم ما عند علماء المدينة المُنوّرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يكتف بهذا، فقد راح يتنقّل طوال عمره، بلا كَلَل أو مَلَل، في سائر أنحاء العالم الإسلامي، كالعراق والشام ومصر وجميع بلاد ما وراء النهر، عالما ومُتعلّما.

ويكفي أن نعلم أن عدد شيوخه قد تجاوز الألف، أي أنه قد اغترف من بحار كل علماء زمانه تقريبا.

وأمّا تلاميذه الذين سمعوا منه مُباشرة، وكتبوا عنه فقد بلغوا عشرات، بل مئات الألوف من سائر البلدان، ثم نهلت الأمّة كلها من مؤلفاته إلى يومنا هذا..

وكُل من يأتي بعده من أهل العلم إلى يوم القيامة، فهو من تلاميذه الذين يدينون له، بل الأُمّة كلها تدين له بالفضل.

وشاء الله تعالى أن يعرف الجميع فضل وعلم البخاري في كل مكان ارتحل إليه..

ومن ذلك أنه عندما دخل بغداد أراد العلماء هناك اختبار ذاكرته وكفاءته وعلمه، فأمروا مائة من الرجال أن يسألوه عن مائة من الأحاديث،

بعد تغيير أسماء الرواة، وقلب الأسانيد -سلسلة رواة الحديث-فاستمع إليهم بهدوء وصبر، وفيكل مرة يجيب على طارح الحديث:

«لا أعرفه» فظن غير الراسخين أنهم قد نالوا منه، وأنه قد عجز أمامهم.

لكن كبار الشيوخ أمروهم بالانتظار حتى يسمعوا منه بعد أن يفرغوا من عرض المائة حديث، وحدث ما توقّعه العقلاء،

إذ راح البخاري يواجه السائلين واحدا تلو الآخر -بالترتيب- فقال للأول:

أنت قلت كذا وكذا، والصواب هو أن هذا الحديث رواه فلان عن فلان عن فلان،

وقال للثاني مثل ذلك.. إلخ حتى فرغ من المائة، بدون أن يُخطئ في كلمة أو اسم راو واحد، وراجع القوم الأحاديث المائة،

فإذا هي كما رواها البخاري بالضبط، فأقرّوا له بالعلم والفضل.

ويُعلّق الإمام ابن حجر العسقلاني على هذه الواقعة،مُبديا إعجابه الشديد بالعلّامة البخاري،

 ويُلاحظ أنه لم ينس قط رواة ومتون الأحاديث فقط، بل حفظ ما قاله كل واحد من الرجال المائة -في دقائق- وأعاد ما قالوه له بالضبط بلا أدنى خطأ!

ويُروى أن هذه الواقعة تكرّرت أيضا في «سمرقند» إحدى مدن ما وراء النهر-بآسيا الوسطى- وخرج الإمام العظيم من الامتحان أيضا بلا خطأ في لفظ واحد، رضي الله عنه وأرضاه.

ومن عجائب البخاري، أيضا، أنه قد بدأ التأليف مُبكّرًا جدًّا -فيسن الثامنة عشرة- وكان باكورة إنتاجه العلمي الغزير كتاب «قضايا الصحابة والتابعين» ثم موسوعته الهائلة «التاريخ» الذي كان يسهر لتأليفه عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المُنوّرة.

ومن مؤلفاته أيضا «تفسير القرآن الكريم» و«الأدب المفرد» و«خلق أفعال العباد» وغيرها.لكن أشهر ما جمعه وأخرجه للناس هو كتابه «الصحيح» الذي يضم أكثر من سبعة آلاف ومائتي حديث نبوي شريف.

وسبب كتابة الصحيح أن البخاري كان يحضر مجلس الإمام العظيم إسحاق بن راهويه، فسمعه مرة يقول لتلاميذه «لو جمعتم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب» ولم يلتقط الفكرة سوى أصغر الحاضرين، النابغة البخاري، الذي صمّم على جمع الأحاديث الصحيحة في كتاب، وهو ما تحقّق بعد ذلك بسنوات طوال..

وقد بدأ كتابته داخل البيت الحرام، واستكمله في المسجد النبوي الشريف، واستغرق في إنجازه 16 سنة كاملة، وراجعه عدة مرات.

وروى أحد مُعاصريه أنه كان يستيقظ من نومه 20 أو30 مرة ليلا، ليراجع إسناد حديث، أو يدوّن ملاحظات على إحدى الروايات، أو يضيف حكما فقهيا في عنوان أحد الأبواب، أو يدوّن رأيا لصحابي أو تابعي.. إلخ..

ووصف كثير من العلماء صحيح البخاري بأنه: «أصح كتاب بعد القرآن الكريم» واستفاد به ومنه معاصروه ومن جاءوا بعده من أهل الحديث والتفسير والفقهاء والعلماء في سائر الأنحاء،ثم جميع المسلمين إلى يوم القيامة.

وكان رضي الله عنه لا يكتب حديثا سمعه من شيوخه إلا بعد أن يتوضأ ويصلى ركعتين، ويستخير الله تعالى، ويتأكّد من صحة رواية الحديث.

ولا يروى البخاري حديثا إلا عن أهل التقوى والصلاح والصدق والعلم والدراية التامة، فضلا عن الضبط وحضور الذهن وتمام العقل.

وكان يشترط أن يكون الراوي قد عاصر شيخه الذي أخذ الحديث عنه، وأن يكون قد قابله شخصيا، ليتأكّد من أنه قد تلقى هذا الحديث منه مُباشرة وليس بواسطة.

وكل هذا جعل من صحيح البخاري أهم دواوين السُنّة المُطهّرة، وأصحّها على الإطلاق.

ومن الغريب أن قلة من العلماء يُقدّمون عليه «صحيح مسلم» مع أن مسلما يكتفي بشرط أن يُعاصر الراوي شيخه الذي روى عنه الحديث، ولا يشترط اللقاء بينهما فعلا -كالبخاري- وهذا يؤكّد أن إسناد أحاديث البخاري أقوى، وفي كُلِ خير..

وقال الإمام الدار قطنى: «لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء».

وقد عرض الإمام البخاري كتابه -الصحيح- على الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن المدينى والإمام يحيى بن معين وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث قال الإمام العقيلى عنها: «والقول فيها قول البخاري» أي أنها صحيحة بدورها كما رأى البخاري.

 ومع فضله وعلمه وصحة أحاديثه، كان الإمام مسلم نفسه من تلاميذ الإمام البخاري.

وثبت أن مسلما لقي البخاري يوما، فقبّل رأسه ويديه، وقال له، تواضعا واعترافا بعلمه وفضله: «دعنى أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المُحدّثين، وطبيب الحديث فيعِلَلِه»

وقال له مرّة أخرى -بعد أن صحّح له البخاري إسناد حديث-: «لا يُبغضك إلّا حاسد،وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك» وكذلك كان الباقون مشاهير أصحاب دواوين السُنّة، كالترمذي وابن ماجه والنسائي والحاكم والبيهقى ومن دونهم،من تلاميذ البخاري.

بل ثبت أن كثيرا من شيوخه الذين علّموه،قد تعلّموا منه ونقلوا عنه لاحقا ما لم يكن عندهم من الأحاديث،

و{ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} سورة الجمعة:4

وقال الإمام الحاكم: رحم الله الإمام محمد بن إسماعيل -البخاري- فإنه الذي ألّف الأصول، وبيّن للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه، كمسلم وغيره.

ولم يقتصر البخاري على الجهاد العلمي، وما بذله فيه جهود هائلة، بل شارك أيضا في الجهاد ضد أعداء الإسلام. ويقول معاصروه أنه كان راميًا ماهرًا، نادرًا ما يخطئ سهمه الهدف.

وذات يوم أصاب سهمه وتد قنطرة على نهر فكسره، فأرسل إلى صاحب القنطرة، طالبًا منه السماح له بإصلاحه على نفقته،وكان صاحبها من أهل العلم،فرد علي البخاري قائلًا: «بل القنطرة وجميع ما لي فداء لك»

ففرح البخاري بسماحة الرجل وعفوه، وتصدق بمئات الدراهم،وأملى على تلاميذه في ذلك اليوم خمسمائة حديث..

وكذلك بني رِباطًا -قلاعًا وتحصينات- على حدود بلده-بخارى-من ماله الخاص، وشارك بنفسه في بنائها.

واجتمع عدد كبير من الناس لمعاونته في البناء، وطلب منه بعضهم أن يستريح من العمل معهم بيديه، فأبى إلا أن يحمل الطوب معهم، حتى لا يحرم نفسه من الثواب العظيم..

ويُروى أنه أعد لهم طعامًا، وكان قد اشترى خبزًا قليلًا بثلاثة دراهم، فأكل معه ما يزيد عن مائة من العمال حتى شبعوا، وبقى طعام كثير، وتلك كرامة ظاهرة..

وكان رضي الله عنه مستجاب الدعوة، وقد عاين بنفسه استجابة الله تعالى له -في الحال- فامتنع بعد ذلك عن طلب شيء من ربه -من حاجات الدنيا- خشية أن ينقص من حسناته.

ومن صفاته العطرة كذلك أنه كان يتجنّب الغيبة والنميمة تمامًا، حتى في الوصف الضروري لأحوال رواة الأحاديث -لبيان ما إذا كان الراوي صالحًا للنقل عنه أم لا- كان البخاري يكتفي بقول عبارات غير جارحة، مثل «سكتوا عنه» أو «تركوا حديثه» أو «رماه فلان بالكذب» وفي هذا الوصف الأخير ليس هو من يتهم الرجل بالكذب، بل شخص آخر،وكل ما فعله البخاري هو إثبات هذا الوصف -للأمانة العلمية- فإنه لا يجوز كتمان حال الراوي بحجة تجنّب الغيبة، وهذه من حالات الضرورة، حتى لا ينخدع الناس بشخص كاذب، فينقلوا عنه موضوعاته، التي ينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا ما فيه من ضرر وبلاء عظيم.

وعن زهد الإمام حدّث ولا حرج. إذ كان مُكتفيًا معظم عمره بملابس بسيطة، وكان طعامه الخبز فقط لا غير.

وكان يتصدّق بمعظم ما يأتيه من ثمار أرضه، وكثيرا ما كانت نقوده تفنى، فكان يأكل الحشائش،حتى لا يسأل أحدا شيئًا.

وكان ربّه الأكرم يرسل إليه من يعطيه مالًا بلا طلب ولا سابق معرفة، وهى كرامة أخرى..

ولم يعلم من حوله بزهده وتقشّفه، إلّا في أواخر حياته،عندما فحص طبيب بوله، وأخبرهم أن هذا الإمام لا يتناول سوى الخبز، فألحّ تلاميذه عليه أن يأكل معه شيئًا، فأضاف قطعة من السكر إلى الخبز!

وهذا حال كُل عالم عامل، يشغله السعي إلى الآخرة، وطلب العلم ونشره عن حطام الدنيا الفاني.

من د. أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى