إذا علمنا أن الله من صفاته جل في علاه التّواب، العفو، الغفّار، الغفور، غافر الذنب وقابل التوب، الحليم، الكريم، السّتير..إلخ، علمت ـ يقينا ـ الحكمة من هذا النقص الذي يعتري هذا الإنسان،

وأرجو أن تتابع معي أخي الكريم النقاط التالية:

أولا:

ما من شيء يبغضه الله جل في علاه مثل المعاصي والذنوب، وإن المعاصي والذنوب كانت سببا في زوال أمم وذهاب حضارات ودمار أقوام،

والمعاصي سبب لمحق البركة، وضيق الرزق والعيش، وظلمة الوجه وضيق القلب،

وآثار الذنوب والمعاصي على الدول والأفراد والمجتمعات أكثر من أن أحصيها في هذا المقال

(فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وعلى العبد المسلم أن يفرّ من الذنوب والمعاصي فراره من الأسد، وأن يتخذ كل الأسباب التي تحول بينه وبين المعاصي، لأنها سبب غضب الربّ وسخطه وعقابه.

ثانيا:

ومع ما تقدم، فلا بد ولا مفر من الوقوع في الخطيئة والمعصية!،

وهذا سرّ الله في هذا الإنسان، بحكم تركيبته القائمة على النقص كما أسلفنا. يقول الغزالي في الإحياء

(..كل بشر لا يخلو عن معصية بجوارحه، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح،

فلا يخلو عن الهمِّ بالذنب بالقلب، فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم، فلا يخلو عن وساوس الشيطان، بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذِكر الله،

فإن خلا عنه، فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص،

وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها، رجوع عن طريق إلى ضده، والمراد بالتوبة: الرجوع،

ولا يتصور الخلو في حق آدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير، أما الأصل فلا بد منه).

بل إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم».

كما في صحيح مسلم. والمعنى لابد من وقوع الذنوب من بني آدم، ولو افترضنا ـ جدلا ـ أن بني آدم لا تقع منهم الذنوب لأذهبهم الله ثم جاء بآخرين حتى يقعوا في الذنوب،

والعلة من وراء ذلك أنّ الله عفو غفور رحيم تواب ستّير حليم..إلخ ومقتضى ذلك يستوجب وجود ـ مخلوقات ـ تذنب فيغفر لها ويرحمها ويسترها..إلخ.

ثالثا:

فمهما بلغت ذنوبك، ومهما اقترفت من الآثام، فباب التوبة مفتوح على مصراعيه، ارجع إلى ربع فإنه رب غفور رحيم،

فإذا منّ الله عليك يتوبة فاحرص على عدم معصيته مرة أخرى، وخذ بالأسباب التي تحول بينك وبين الذنوب،

ثم إذا وقعت في الذنب والمعصية ـ ولابد أن تقع!ـ وجب عليك التوبة والاستغفار،

وهذه التوبة والانكسار والاستغفار والرجوع إلى الله بهذه الكيفية التي ذكرناها،

هي من أحب الأعمال وأجلّ الطاعات والقربات التي يحبها الله،

وهو باب مفتوح على مصراعيه إلى الله، يلج منه فقط العبد المؤمن الذي اقترف ذنبا ثم تاب منه، بل إنّ الله ليفرح بهذا العبد فرحا عظيما،

فقد ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم أنه قال

«لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض، فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه،

فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك،

إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها»،

ثم قال: «من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح».

رابعا:

والله إن الإنسان ليعجز عن التعبير عن هذا الحديث العظيم، وأنا أريدك أيها القارئ الكريم أن تراجع المثل الذي ضربته لك في المقال السابق، مثل الأم وأبنها،

ثم تعيد قراءة هذا الحديث العظيم فلعل فتحا وفهما يشرق على قلبك، فتبدو لك بعض ملامح عظمة هذا الرب الجليل جل في علاه.

خامسا:

وحتى يعلم العبد المذنب إذا تاب وأناب قدر الرضى والفرح الذي يقع من الربّ الجليل جل في علاه منه، فإنه مهما وقع في الذنب وتكرر منه،

فإن الله يغفر له ويتوب عليه، مادام أنه لم يُبيّت النية على المعصية، ومادام أنه قد أخذ الأسباب لاجتناب الذنوب والآثام،

يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن عبداً أصاب ذنباً فقال: رب أذنبت ذنباً فاغفر، فقال ربه: أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي،

ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً فقال: رب أذنبت آخر فاغفره، فقال : أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي!

ثمّ مكثَ ما شاء الله ثم أذنب ذنباً فقال: رب أصبت آخر فاغفره لي

فقال: أعَلِم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي! ثلاثاً فليعمل ما شاء».

رواه البخاري ومسلم.

قال الإمام النووي (وهذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها،

وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة، قبلت توبته، وسقطت ذنوبه..).

وقال أيضا في قوله («اعمل ما شئت فقد غفرت لك» معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك).

فخلاصة القول:

إنّ من أعظم الأبواب المفتوحة على الله، باب التوبة والانابة والاستغفار،

وهو باب لا يدخله إلا التائبون من بني آدم لا يشاركهم فيه أحد من المخلوقات الأخرى،

وإذا أحسن العبد المؤمن الدخول منه فإنه يُفرح الربّ جل في علاه، وإنّ العبد المذنب إذا تاب

وأناب إلى الله ـولله المثل الأعلىـ أشبه ما يكون بذلك الإبن حينما يسأل أمه الثّرية والمحبة له أن تنفق عليه،

فهو يدخل على أمه من أخص خصائصها و«صفاتها = الأمومة» فلا تتخايل قدر السعادة التي يُحدثها الابن لأمه.

وهذا العبد المذنب التائب سائل الستر والمغفرة والرحمة يدخل على الله من أخص «صفاته = العفو التوّاب الغفّار الكريم الرحيم السّتير الغفور..إلخ»

فلك أن تسرح بخيالك في قدر الفرح الذي يُحدثه هذا العبد التائب لربه جل في علاه.

الطريق إلى الله

باب الخطئية الذي تناولته في المقال السابق من أعظم الأبواب الذي ضلّت فيه البشرية جمعاء كما سأبينه لاحقا في هذا المقال،

وإيّاك أخي الكريم أن تنظر إلى هذا الباب ـ الخطئية والتوبة ـ بنظرة سطحية، فإنه باب عظيم عند الله،

ومن رحمة الله بهذه الأمّة المحمدية أن جعل هذا الباب سهلا ميسرا يناسب الشريعة الحنيفية السمحاء التي جاء بها سيد ولد آدم عليه السلام،

ومع ذلك ضلت فئام من هذه الأمة في هذا الباب، واتبعت سنن من كان قبلهم، وإليك التفصيل:

أولا:

أمّا النصارى الضالين فيقولون أن آدم عليه السلام حينما عصى ربه وأكل من الشجرة في الجنة انتقلت تلك الخطيئة إلى ذريته،

فكل مولود ـ كما يزعم النصارى ـ يولد مدنسا بالخطيئة ويعيش مخطئا وقد ورث الخطئية عن أبيه آدم، ثم أراد الله أن يُخلّص البشرية وذرية آدم من وزر الخطايا ودنس الذنوب،

فأرسل ابنه عيسى ـ تعالى الله عن كفر النصارى علوّا كبير ـ فصلبه اليهود ككفارة لخطايا بني آدم جميعا (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

ولم يتوقف كفر النصارى وضلالهم عند هذا الحد، بل يزعمون أنّ كل من آمن بالمسيح على أنه ابن الله ـ أو هو الله نفسه ـ فهو مغفور له،

ولذلك ترى أمم النصارى اليوم قد انغمسوا في الذنوب والمعاصي والآثام، وحسب أحدهم أن يؤمن بالمسيح حتى تُغفر له خطاياه،

هكذا هو دين الرهبان والقسس والباباوات، تعالى الله عن كفرهم علوّا كبيرا.

ثانيا:

أما اليهود، فهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنّ الله أصطفاهم، واختار منهم الأنبياء، ولن تمسهم النار إلا أيام معدودات،

وسيغفر الله لهم، فكان من نتاج ذلك أن قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، فعاثوا في الأرض فسادا،

فقتلوا الأنبياء والمصلحين، وقالوا أن الأمم والشعوب الأخرى ما هم إلا «أمم ضالة» تستحق المحق والعذاب!، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى!.

ثالثا:

لا تستغرب إذا رأيت في هذه الأمة المحمدية من سلك مسلك اليهود والنصارى وتبنيهم منهج اليهود في التعامل مع الناس،

فوقف هؤلاء كقطاع الطرق بين الناس وربهم، ونصّبوا أنفسهم أمناء على أبواب السماء وقالوا لن يدخل أحد على الله إلا من بابنا.

فقالت الرافضة كل الأمة ضالة كافرة ولن يقبل منها الله صرفا ولا عدلا ما لم تدخل على الله من أبواب «آيات قم والنجف!»،

وقال آخرون، كل الأمة ضالة ومنحرفة ومبتدعة وخوارج وتكفيريين ما لم يدخلوا على الله من باب «سماحة الوالد!»،

وقالَ آخَرون قد ارتدت الأمة وكفرت بربها وآمنت بالطاغوت وكل الأبواب مؤصدة عليها ما لم تدخل عليه من باب «الخليفة البغدادي»،

واستحل هؤلاء جميعا دماء الدعاة والخطباء والأئمة والعلماء وأعملوا فيهم السيف،

ولسان حالهم «ليس علينا في الأميين سبيل» يهتدون بهدي اليهود ويستنون بسنّتهم.

وهكذا لو تأملت سائر شيوخ الطرق والجماعات والأحزاب لوجدتها تُغلق الأبواب الموصلة إلى الله

ولا تسمح لعامة الناس الدخول إلى الله إلا من تحت عباءة شيوخهم وأئمتهم،

فحالوا بين العباد وربهم كقطاع الطرق!. وهؤلاء ـ من حيث يشعرون أو لا يشعرون ـ ينازعون الله في أخص خصائصه، وهي صفاته المتعلقة بالرحمة والمغفرة والعفو والقبول والتوبة.

من سيف الهاجري

مفكر وسياسي - الأمين العام لحزب الأمة الكويتي