نشرتُ على وسائل التواصل قولًا لإمامنا سفيان الثوري عليه رحمةُ الله، وما إن نشرتُه حتى تتابعت التعليقات من عددٍ من السادةِ الكرماء،

وهي على مشارب شتَّى: فبعضهم يستشكله، وبعضهم يستوضحه،

وبعضهم ينكر ويُخطِّئ، وبعضهم يحصر نطاقه في ساحة العلماء،

وبعضهم يقول: إنَّ القولَ صحيحٌ إلا أنَّ بيئة المتقدمين تخالف بيئتنا، وهذا من شأنه أن يقع فوق أفهام العوام فيقع الافتتان.

والحقُّ أني تلقيت هذه التعليقات برضًا وسرور؛ لأنَّها في الجملة بقيت في رحاب الأدب،

وهي في مجملها تفتح مجالًا للنقاش العلمي بقصد الإثراء المعرفي، فينتفع المتكلم وينتفع المستمع،

وقد كانت المناظرات في القديم أحد أهم وسائل تثوير الفقه حتى اكتمل بنيانه،

ولهذا كم خسرت أمتنا الإسلامية من صميم العلم الذي يتولى مناقشة النوازل لما غابت آداب العلم وآداب المناقشة وآداب المناظرة.

وأَذكُرُ المنشورَ بنصِّه ثم نلتقي في التعقيبِ عليه والبيان:

«إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء؛ لأنه ربما رآهم يعصون فلا ينكر، ويلقاهم ببشر».

و «إذا رأيت الرجل محببًا إلى جيرانه، فاعلم أنه مداهن».

سفيان الثوري رحمه الله.

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/278).

هذا نصُّ المنشور، وظاهرٌ جليٌّ أنني اقتصرت على كلمة الإمام سفيان الثوري من غير تعقيب.

وأعترف أنني ما قصدتُّ به الإغراب؛ لأنَّ هذا القول أوردته في أول كتابٍ كتبته، وهو «سراج الغرباء إلى منازل السعداء»،

وكنت قد كتبته سنة 2011، وتكلَّمت عن هذا الموضوع بشيءٍ من البسط فليُرجع للكتاب لمن أراد التوسع.

وما زالت الأيام تجري والأعوام تمضي والشواهد على صحة هذا القول ودقَّة نظر صاحبه لا تنقطع،

وقد مررتُ بما لا أقدر على عدِّه أو إحصائه من التجارب الشخصية فيه، ومما أعلمه من حال بعض الكرماء.

فالموضوع عندي مستقرٌّ ثابتٌ لا غرابةَ فيه، لكني لم أنتبه إلى عدم شهرة هذا المعنى فلم أتبعه ببيان،

لا سيما وأنَّ بعض الكرماء قد اقترح ألا أطيل في المقالات وأن أكتفي بالمنشورات القصيرة والتغريدات.

وشاء الله تعالى أنَّ أحد الإخوة من مدينة رفح يطِّلع على التعليقات

فأرسل إليَّ مقطعًا لي من سلسلة السيرة النبوية تطرقت فيه للموضوع بشيءٍ من البيان والبسط،

وقد قام بقصِّه وترتيبه جزاه الله خيرًا، فلعلي أنشره فيقوي الفكرة بالإضافة لهذا المقال.

وعقب هذا فآخذ في بيان القول، على أنِّي سأتعامل مع القولين المُثْبتين في المنشور على أنهما قولٌ واحدٌ لتسهيل الإحالة؛ لأنَّ قائلهما واحدٌ ومؤداهما واحد.

وأعرض ما عندي في نقاط أربع ولا أقصد الاستيعاب:

أولًا:

إنَّ هذا القول يتناول الزاوية النفسية والعلائق الأخوية بين الناصح والمنصوحين، فموضع الكلام إنما هو في ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومتقررٌ معلومٌ أنَّ الإنسانَ جُبِل على حبِّ الموافقة، ولهذا يشتدُّ عليه أن يُعارض في قوله أو فعله،

ومن ثم أتت كلمات أهل العلم بالوصية أن تكون النصيحة بأحسن أسلوب وأخفِّه على النفس مع قَرنِه بالإيجابيات وما يُقر قبل أن يُذكر للمنصوح ما يُنكر.

ومع ذلك؛ فإنَّ كثيرًا من الناس يرفض النصيحة ويشتد على صاحبها ولو تزينت بكافة فنون الحكمة والموعظة الحسنة،

وربما نقم على الناصح أشد النقمة، وعاداه وهجره وشهَّر فيه واستخف به.

وإذا كان هذا حاضرًا في الواقع.. فإنه في وسائل التواصل أشد حضورًا؛ لعدم المواجهة المباشرة، ولأسبابٍ أخرى يضيق عنها المقام.

وقد رأيتُ هذا في منشوراتٍ كتبتها وكانت مشحونةً بالحُجَّة والأدب، دون أن تخدش خُلُقًا أو تخرم مبدأ شرعيًّا أو قِيميًّا،

ومع ذلك كنت أرى شراسةً في الانتقاد يُغادر كلَّ أدب، لمجرد أنك مسست قناعات بعض الناس، حتى كان بعضهم يشتمني بوضوح،

ولا أنسى أنَّ أحدهم كتب يومًا يقول: أنت شيخ حقير.

ولم يكن هذا مستغربًا عندي، ولا أجد به بأسًا إلا العتب على دموع الأخلاق والقيم التي تسيل في شوارع المسلمين؛

وذلك لأنِّي أعلم حساسية مصادمة الناس في قناعاتها، علمًا بأنِّي من المدرسة الشرعية التي تُعظِّم النصَّ والتراث وما عليه جماهير الأمة،

فلا أتجه لأقوالٍ شاذَّة، وألتزم الأدب بكلِّ سبيل.

وليس القصد هنا الكلام عن الجانب الشخصي؛ وإنما أورد هذا الكلام لتعلم طبيعة الرد التي قد تواجه الناصح، ولو شحن كلامه بالأدلة والحجج ومسالك الأدب والحكمة.

ثانيًا:

كلام الإمام سفيان الثوري في الجيران، ولا يخفى على مشتغلٍ بالعلم أنَّ منزلة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

ولو كان عالمًا أو داعيةً في صعيده الاجتماعي ليس لها هذا الوهج الذي يكون للعالم أو الداعية إذا خرج من الحلقة الاجتماعية الأولى،

ومن ثم تكون ردة الفعل من بعض الجيران عنيفة في كثيرٍ من الأحيان.

وقبل أن أسترسل بضربِ مثالٍ هجم على خاطري الآن كلمة قالها لي شيخنا الدكتور نزار ريان عليه رحمة الله لمَّا طلبت منه أن يأتي مدينتنا ويلقي محاضرة

فقال: كيف آتي والدكتور يونس الأسطل موجود؟ فقلت: الشيخ يونس لا يُقصِّر ولكن الرغبة أن نستمع إليكم، فقال: كأنك تقول: إنَّ زامر الحيِّ لا يطرب!.

ثم قال: أنا عندما أدخل مسجدي الخلفاء فأكون كأيِّ شخص، فإن خرجت خارج الحي تلقاني الناس بالقبول والإلحاح.

وهذا أمرٌ متفهمٌ معلوم.

إذا تقرر هذا فتخيل تخيلًا حقيقيًّا أنك أنتَ أنت الذي تقرأ المنشور الآن،

والذي قد يكون لك موقفٌ معارضٌ من كلمة الإمام سفيان الثوري أنك كنت جالسًا في مجلس فيه جدُّك لأبيك وأعمامك،

أو جدُّك لأمك وأخوالك، وكنت أنت ممن يخطب الجمعة ويؤم الناس في الصلاة.

وبينما أنتم جلوس تتحدثون وإذ بجدِّك أو عمٍّ لك أو خال يغتاب أحدًّا من المسلمين ويشتد عليه، فقلت له: يا جدي إنَّ الرجل له حسنات،

وأنا أتفهم الإساءة التي حصلت، ولكن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، فالغيبة التي ما زادت عن رواية الحق هي حرام،

بل وكبيرة من الكبائر، فاذكروا الرجل بما فيه من خير، واستروا عنه ما به من شر.

أظن في الغالب أنهم لن يسمحوا لك بإكمال هذا الكلام، وسوف تلاحقك كلمات بعضهم شدةً،

ولو تكرر هذا منك لصرت تسمع: لا علاقة لك بما تسمع، وإذا لم يعجبك فقم، واجعل مشيختك في المسجد.

فلو أنك قمت تنكر في كلِّ مقامٍ فيه مُنْكَرٌ.. فصدقني أنَّه لو كان هناك جيفة حمار قريبةً من المجلس لكانت أحب إليهم من وجودك بينهم وإن كانوا يزكونك في دينك وصلاتك وعلمك ودعوتك.

وقبل أن تعترض على قولي هذا أجِّل الاعتراض لآخر المقال، وعسى أن يُكتب لك أجر الصبر عليَّ!.

ثالثًا:

الحالة العامة اليوم في الأمة هي التوجه لاعتماد الأنموذج الليبرالي الذي يقوم على تأليه الحرية

وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحكم أنَّ كلَّ شخصٍ هو حرٌّ فيما يفعل، فلا إشكال في الردة عن الإسلام، وليس من حقك أن تعترض على من يخطئ.

وحذار أن تورد أدلةً دينية تعارض هذا المنطق من مثل قول النبيِّ :

«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

ولهذا بمجرد أن تُنكر على أحدهم تخرج لك رزمةٌ من السهام: دع الخلق للخالق، وما لك وللناس! إلى غير ذلك.

وكلُّ هذا يحصل مع أنَّ الناس تحب الناصح في دينه لكنها تكره جانب الإصلاح فيه، فهي تحب صلاحه لا إصلاحه،

وتحمد فعله وتشكره كلما زاد من الصلاة وقيام الليل ومساعدة الناس وإقامة الجمعيات الخيرية،

فإن اقترب من قناعاتهم وأنكر عليهم انقلبوا وحوشًا ينالونه بأشد الاتهامات وألفاظ السوء.

ومن دخل ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عرف قيمة قول سفيان الثوري،

ورأى أنَّ زماننا قد تضخم فيه المرض وزاد، والحاجة إلى هذه التربية صارت أشد تأكدًا.

وعليه؛ فإنَّ مقام الرجل الصالح في الجيران أنه يدعو لهم ويحضر مناسباتهم ويأكل من طعامهم ويزورهم ويمازحهم كلُّ ذلك يجعله محل إجماعٍ بينهم.

أما لو بدأ ينصحهم في أخطائهم، فيأتي جاره ويقول: بلغني أنك تظلم ولدك وتمنعه حقَّه،

وتذهب للثاني وتقول: أنت رجلٌ فاضل فلماذا تمنع أخواتك من الميراث؟،

وتذهب لثالث: وتقول: صاحب البقالة يشتكيك وأنك لا تدفع الدَّين مع قدرةٍ لك على ذلك.

وهكذا.

شخصيًّا لا أشك أنَّ بعضهم سيتمعر وجهه، ويقع في الناصح، ويرى أنه تدخل فيما لا يعنيه،

وسوف ينالونه بأشد الألفاظ السيئة، بينما لو بقي في مربع الصلاح دون الإصلاح لبقي كلمةَ إجماع.

رابعًا:

إنَّ كلام سفيان الثوري ظاهرٌ أنه يتناول (إجماع الجيران) على فضله،

فالصورة المعتادة أنَّ أغلب الجيران سيكونون محبين للناصح ومستجيبين له، بينما هناك فئةٌ هي التي ضاقت بالنصيحة والناصح.

وهذه هي التي يتناولها الإمام سفيان بوضوحٍ في كلامه، ومن غير تكلف، فالرجل ربط المسألة بالإنكار على المعصية وبالمداهنة.

وبالتالي تبقى النصوص على حالها تشكل كامل الصورة؛ فجمهرة الناس هم الذين يُعتمد تزكتهم وشهادتهم، ويُطلب رأيهم.

أما من ذمَّ الناصح ووقع فيه فليس مرد ذلك أنه أوذي منه، أو أنه يرى عليه شيئًا في دينه؛ وإنما لأنَّ الناصح أنكر عليه منكرَه،

وقطع عليه طريقه، فقوله فيه غير معتبر، وغضبه عليه غير معتبر، لا في الشريعة ولا عند ذوي الأحلام والنُّهى.

وأختم المقال بالتأكيد على أنَّ الناس لديهم حساسية من مجرد النصيحة مهما اقترنت بالحجة والأدب والشفقة؛ لأنَّ النفس جُبِلت على الموافقة،

ومن هنا تأتي التربية الإيمانية لتجعل ذوي الديانة والاستقامة يقبل النصيحة ويشكر صاحبها.

وأذكر أني كلَّمت أحد المشايخ في أمرٍ ففرح وشكرني عليه، وقال: والله إني أُحمِّلك أمانة النصح كلما وجدت شيئًا يقتضي التنبيه.

وفي المقابل فإنَّ من أغرب ما مرَّ بي أنَّ أحد الأشخاص رفض النصيحة ولم أنصحه يومًا، وقبل أن يعرف موضوعها، مع أنَّ بيننا من قوة العلاقة وحسن الصلة ما الله به عليم.

وآخر رأيته في موقف وحدث ما يستدعي النصيحة بأوجز عبارة، فقلت: هناك أمرٌ أود أن أكلمك فيه،

فقال: عندي ظروف صعبة وإن كانت نصيحة فإنَّ نفسيتي لا تحتمل أن أستمع،

فقلت له: الأمر إليك، ولكن اعلم أنَّ النصيحة هي عملية وقاية كريمة من خطأ يدوم أو سقوطٍ محتمل،

 ولهذا إذا أردتَ أن تنتقم من أحدٍ فلا تنصحه!.

وبناءً على ذلك صار من نصحي لمن ينصح ألا يستعمل لفظ النصح في النصيحة!؛ بل يقول: أرى لك رأيًا إن أحببت أن أطرحه عليك فعلتُ.

 وأختم المقال بقولٍ وحوارٍ:

أما القول.. فواردٌ عن حذيفة اليماني فإنه قال: «يأتي على الناس زمانٌ لأن تكون فيه جيفة حمار أحب إليهم من مؤمنٍ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر».

وهذا القول سببُ التعبير بما مرَّ من قبل، وليس الهدف إسقاطه على الواقع في كلِّ أشكاله؛

وإنما قصدت الإفادة بأنَّ هذا المفهوم كان واردًا في المتقدمين.

وأما الحوار فإنه بين أويس القرني خير رجل في التابعين بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم مع رجلٍ من قبيلةِ مراد،

وأترك لك قراءة الحوار كما ورد، وقد أخرجه الحاكم بسنده في كتابه: «المستدرك على الصحيحين».

قالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ إِلَى أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.

قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ».

قَال: كَيْفَ أَنْتُمْ يَا أُوَيْسٌ؟.

قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ».

قالَ: كَيْفَ الزَّمَانُ عَلَيْكُمْ؟.

قَالَ: «لَا تَسْأَلِ الرَّجُلَ إِذَا أَمْسَى لَمْ يَرَ أَنَّهُ يُصْبِحْ، وَإِذَا أَصْبَحَ لَمْ يَرَ أَنَّهُ يُمْسِي.

يَا أَخَا مُرَادٍ؛ إِنَّ الْمَوْتَ لَمْ يُبْقِ لِمُؤْمِنٍ فَرَحًا.

يا أَخا مُرَادٍ؛ إِنَّ عِرْفَانَ الْمُؤْمِنِ بِحُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُبْقِ لَهُ فِضَّةً وَلَا ذَهَبًا.

يَا أَخَا مُرَادٍ؛ إِنَّ قِيَامَ الْمُؤْمِنِ بِأَمْرِ اللَّهِ لَمْ يُبْقِ لَهُ صَدِيقًا، وَاللَّهِ إِنَّا لَنَأْمُرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَتَّخِذُونَنَا أَعْدَاءً، وَيَجِدُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفَاسِقِينَ أَعْوَانًا حَتَّى وَاللَّهِ لَقَدْ يَقْذِفُونَنَا بِالْعَظَائِمِ، وَوَاللَّهِ لَا يَمْنَعُنِي ذَلِكَ أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ».

هذا والله أعلم، ونسبةُ العلم إليه أسلم

والحمد لله رب العالمين

من وليد كسّاب

عضو اتحاد كتاب مصر