دعا رأس النظام الانقلابي المصري في نهاية أبريل 2022 إلى حوار سياسي أثناء إفطار رمضاني فاخر، لبته معارضة الداخل دون أن تجرؤ على السخرية من شكل الدعوة كما هزأت من دعوة الرئيس المنتخب من قبل؛ وبدت وكأنها امرأة تعود لبيت الطاعة بعد أن أوجعها زوجها ضربًا، وطردها شر طردة، ونزع منها حضانة أبنائها؛ وتركها كالمعلقة.

أعلن الزعيم بدلال انقلابي عسير الهضم عن قبوله حضور كل معارضيه حواره باستثناء فصيل واحد -جماعة الإخوان المسلمين-فشاطرته المعارضة الدلال معلنةً أنها مثله لن تتحاور مع من تلطخت أيديهم بالدماء، يظن المنقلب ومعارضته أن السنوات التسع المنصرمة قد غسلت أيديهما ووجهيهما وشرفهما من دماء الشهداء، ويتجاهلان أن كل أطهار العالم يقرؤون كلمة «قاتل» المحفورة على جبهتيهما، وأن جرائمهما لم تسقط بالتقادم.

أعادت الدعوة إلى ذاكرتي أحداث سنوات قريبة، تحولت فيها الثورة من مهاجمة أعدائها إلى تدمير خلاياها؛ فبعد أن احتفلت كل مكونات الثورة بإسقاط مبارك، احتكرت الفئة العلمانية البراءة الوطنية والعفوية الثورية والزهد في المناصب، وألصقت أوصاف الخيانة واللؤم والطمع برفيقها الإسلامي، الذي حصرت دوره في إنجاح المد الثوري.

للتيارين العلماني والإسلامي صلات بديهية بمؤسسة الجيش، فلا يعقل أن تعمل أحزاب وحركات بمعزلٍ عن المؤسسة الحاكمة التي تحدد من يبقى خارج السجون، ومن يستقبل زيارات الفجر! لذلك كان من السذاجة أن يصدق أحد أن الإخوان يفاوضونها، بينما الليبراليون واليساريون لا يفعلون.

احتكر العلماني تمثيل ثورة يناير، واتسع خلافه مع الإسلاميين، حتى وصلا إلى محطة الاختيار بين شفيق مبارك ومرسي الثورة؛ قبل العلماني مرسي على مضض، ويعد انسحابه التدريجي من حوار «فيرمونت»، و«الجبهة الوطنية لاستكمال الثورة»، هو المغادرة الأولى لصف الرئيس المنتخب.

في ظل سياسة إفشال أداراها العسكري، طارد العلماني مرسي بحساب المائة يوم، وتقدم بطلبات لحل مجلس النواب، وخلق جوًّا من الاضطراب المتصاعد، وهيج الرأي العام، ولم يفارق الميدان طوال عام حكم الإخوان سعيًا لإزاحته وتكوين مجلس رئاسي.

دعا مرسي جميع الأحزاب «دون استثناء» للتوافق حول الدستور، وبالفعل لبى كل الممثلين عن الأحزاب والكنائس، وانفرد الرئيس بأربعة شخصيات هم البرادعي وموسى وصباحي وأبو الفتوح؛ وفي النهاية، وقَّع الجميع على الدستور بالموافقة.

أثار العلماني عاصفةً بسبب إعلان مرسي الدستوري، وبرغم إلغائه له وإذاعته تعديلًا كتبه خمس أساتذة قانون دون تدخل منه، وشهادة وزير الداخلية أن الإخوان لم يمنعوا قاضيًا من دخول المحكمة الدستورية، وشهادة وزير العدل أن مرسي لم يوافق على اقتراح وزير دفاعه السيسي قتل المتظاهرين، وأنه لم يتدخل في أحكام القضاء، فإن كل ذلك لم يشفع للرئيس لدى معارضة كانت تنتظر ربع فرصة لتحطم مركب الدستور كما هدمت مؤسسة مجلس الشعب بعد أن فشلت في عرقلة معاركه الانتخابية عبر تصعيد سابق في موقعة محمد محمود.

كرر مرسي دعواته لحوارات وطنية دون سقف أو شروط مسبقة مع كل مرحلة تأسيس لأركان الدولة، وأعلن عن موافقته المسبقة على نتائجها دون مراجعة، بل إنه أبدى استعداده للاتصال برؤوس المعارضة لينهي حالة الانقسام؛ لكن البرادعي -شيخ أحزاب المعارضة- تدلل ورفض الحضور برغم اتصال نائب الرئيس به ليدعوه بنفسه.

رفضت المعارضة والكنائس الدعوة، ووصفوا الحوار بأنه شكلي وطالبوا الرئيس بضمانات منها تعطيل الدستور، والعمل بدستور1971، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإقالة النائب العام، ودعوا في الوقت نفسه إلى تظاهرات في مختلف أنحاء البلاد.

في مشهد سينمائي رديء، تأبط نجوم المعارضة الليبرالية اليسارية الناصرية المباركية أذرع بعضهم بعضًا في مسيرة إلى ميدان التحرير داعين للاعتصام فيه؛ وأسسوا جبهة إنقاذ، ثم من رحم حركة كفاية دشنوا حركة تمرد، إلى أن استكملوا خياطة مسخ 30 يونيو ونفخوا فيه من روحهم عبثًا ليتنفس، فتلبسه الشيطان وركب على كتفيهم.

كما شارك العلماني عبد الناصر في الانقلاب على فاروق، اتفق على إزاحة مرسي وجماعته مع المنقلب الذي ما إن نال مراده حتى افترسه كما فعل جمال، من المذهل أن يتهم العلماني الإخوان بأنهم لم يتعلموا من أخطائهم، ويتغافل عن أنه أدخل اليوم معطيات الماضي، وجنى النتائج نفسها!

يرفض العلماني معادلة الإخوان الصفرية مع الكيان المنقلب؛ لأنهم يرفضون التطبيع معه، ويتسامح مع إصراره عليها عند إزاحة مبارك، وعند الانقلاب على مرسي؛ ما يعني أن بينه وبين العسكر سرًّا، جعله يقبل حواراته دون قيد أو شرط أو ضمانة؛ ويلبي دعوته في يونيو 2013، ويحضر مشهده الانقلابي، ويشاركه المناصب، ويبرر جرائمه، ويتغاضى عن دستوره، ويصمت عن قراراته فوق الدستورية، وفي النهاية يندمج -رغم الإقصاء والعذاب- معه مانحًا إياه قبلة حياة!

في رواية كقصص حب من طرف واحد، دعا معارضو الخارج معارضة الداخل لتصطف معهم ربما ترضى وتصالحهم على المنقلب، خاطبين ودها بتنازلات، ومحاولات لإسقاط شرعية قيادات جماعة الإخوان الرافضة الاعتراف بالنظام، لكن قلب المعارضة الانقلابية لا يريد سوى حبها الأول، ويحلم بأن تستعيد بالحوار الوطني أيام الثلاثين من يونيو الجميلة.

ولأن مرآة الحب عمياء، لا يرى معارضو الخارج نظرة معارضة الداخل الدونية لهم، ولا يفهمون أنهم بالنسبة لها جزء من الماضي لا تريد أن تتذكره؛ كما أن معارضة الداخل لا تصدق أن الحوار الوطني ما هو إلا مناسبة كالتي يحضرها فخامته بقفاه، ويحييها بهزار رئاسي سمج يرتج قهقهة عليه.

ستظل المعارضتان وفيتين لقصتي حبهما الوردية؛ فستبقى معارضة الخارج في انتظار نظرة عطف من معارضة الداخل، وستتابع معارضة الداخل قبول الهزار الرئاسي عل الحبيب يرق قلبه.

يقول الشباب، عندما تكون في علاقة فإنك يجب أن تنتبه للإشارات الحمراء حتى تبتعد عن الطرف السيئ، لكن يبدو أن المعارضتين لن تتراجعا حتى يعيد فرمهما قطار المنقلب السريع.

من أحمد أبو زيد

كاتب صحفي، وباحث في الفكر الإسلامي