ادعي ديورانت أن النبي هادن يهود ثم انقلب عليهم.. كأنه غدر، ولم يحدث منه غدرٌ بل مد يده لهم بسلام وأمان وعاقبهم حين كشفوا عورة المسلمة،

وحِين هموا أن يقتلوه غيلة بعد عهدٍ وأمان،

وحين تواطئوا مع الأحزاب وحاولوا قتل النساء والأطفال.

ديورانت إذ يكذب على الرسول ليس كل ما اشتهر جيد الصنعة، فللأدوات السلطوية بأذرعها المختلفة دور في تقديم هذا وتأخير ذاك، تنتقي ما يحقق مصالحها وتقدمه؛ فكما أن السلطة نتاج معرفةٍ فإنها- أيضًا- تمكن لنوعٍ ما من المعرفة.

وعامة الناس يستقبلون ما اشتهر دون مقاومة، فالناس لا يمارسون النقد إلا في تخصصاتهم. وأوضح مثالٍ على ذلك كتاب (قصة الحضارة) للفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويليم ديورانت.

انتشر لأنه يعبر عن رؤية قوى دولية للتاريخ، فكأنه خطيبهم، والعجيب أن لا يظهر بوضوح نقدًا لهذا الكتاب وخاصة من قبل المسلمين.

فعامة من يتحدث عن الكتاب وكاتبه يتحدثون بتأيدٍ وإعجاب!! أحاول في هذا المقال ومقالٍ قادم-إن شاء الله- بيان أن ديورانت لم يتحر الصدق في تدوينه للتاريخ،

وأن نظريته التي اتكئ عليها في تحليل التاريخ (التحدي والاستجابة) لا تصلح كمنظور، أو قاصرة عن تفسير كثيرٍ من الظواهر وخاصة ما يخصنا نحن المسلمين.

ديورانت يكذب:

يثني كثيرٌ منا على ما كتب ديورانت عن رسول الله ، ويرى أنه قد انصف الحبيب .

وهذا غير صحيح فديورانت أُخذ بشخص الرسول كما كلُّ الذين مروا على سيرته العطرة.

وما فعله ديورانت لم يكن مدحًا بل حاول ينزع عن النبي صفة الرسالة وأن يرسم له صورًا مشوهة،

 فجمع أكاذيب المستشرقين ونثرها على من يقرأ وتخفى خلف أسلوب الثناء، ولم يكن ثناءً بل ضربًا وطعنًا.

وهذه بعض الأكاذيب التي رددها ديورانت عن شخص الرسول، دفاعًا عن الحبيب، ومثالًا يبين أن ديورانت لم يكن أمينًا في كتابته للتاريخ:

الكذبة الأولى:

 ادعى أن قوم النبي – بدو رحل.

وهذا غير صحيح، فالنبي نشأ وبعث في أم القرى {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، ولم يكن بدويًا مترحلًا.

الكذبة الثانية:

ادعى أن رسول الله رحل للشام عدة مرات، مع عمه ثم منفردًا في تجارة بعد ذلك، وأنه ربما تعلم في هذه الرحلات من النصارى واليهود، وهذا غير صحيح.

فالرسول لم يفارق قريشًا في رحلتيه إلى الشام وكان ذلك قبل مبعثة بعقودٍ من الزمن، ولم يخالط غيرهم من يهودٍ أو نصارى، ولذا احتج القرآن عليهم بوصف النبي بالصاحب {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ} [النجم: 2] أي تعرفونه معرفة الصاحب بصاحبه.

ولم يعرف بينهم بقراءة وكتابة {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].

الكذبة الثالثة:

ادعى أن النبي تردد على المدينة قبل البعثة عدة مرات وأنه ربما التقى اليهود وتعلم منهم، وهذا كذب صريح جملةً وتفصيلًا، فلم يدخل المدينة قبل الهجرة، ولا كان يعرف الطريق إليها ولذا اتخذ دليلًا يوم الهجرة.

الكذبة الرابعة:

ذكر أن النبي كان يصاحب أحد أحبار النصارى في مكة (ورقة بن نوفل)،

وهذا غير صحيح فالنبي لم يصاحب ورقة،

وإنما ذهب إليه مرةً واحدة، وبعد أن نزل عليه الوحي، باقتراح من زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها لسؤاله عن ما رأى في غار حراء؛

وحدثه ورقة بأنه النبي المنتظر، وتمنى أن لو كان من أنصاره وأتباعه.

الكذبة الخامسة:

ادعى أن الوحي كان منامًا، وهذا كذب صريح جملةً وتفصيلًا، فقد كان الوحي يأتي للنبي وهو بين أصحابه يتحدث إليهم في حالة يقظة تامة،

وصدق الرؤية من استقامة الطبع، وهي في الأنبياء أكمل ولذا تصدق رؤيتهم.

والله لم يوحي لنبيه بالقرآن في المنام، قد كان جبريل يأتيه ويتلو عليه بصوتٍ مسموع، ويراجع له حتى يتمكن من الحفظ والبلاغ..

كان تعليمًا ولم يكن أضغاث أحلام كما يفتري ديورانت.

الكذبة السادسة:

ادعى أن الوحي كان يصاحبه صرعًا، أو ما يشبه أن يكون صرعًا، وهذا غير صحيح أيضًا،

فقد كان عرقًا وإجهادًا كمن يحمل شيئًا ثقيلًا {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].

الكذبة السابعة:

ادعى أن النبي نشأ في بيت سيادة وشرف، وراح يستخدم الدين كوسيلة لتوحيد العرب والرياسة فيهم.

ويكذب؛ حتى يقال أنه خرج يستعيد ما فقده أباؤه من ملك.

وأول من عادى النبي وقاتله هم أهله من قريش وفيهم عمه أبو لهب وأبناء عمومته، ثم من قبائل مضر أبناء عمومة قريش، ثم من قيس أبناء عم مضر، ثم باقي العرب.

ولم يورِّث النبوة ولا الإمامة لأحد بعينه، وعرضوا عليه الملك ليكف عن الدعوة في بدايتها ولم يوافقهم،

وقد كان حاله حال الفقراء من الناس في مأكله وملبسه ومسكنه .

ولم يرسل للعرب:

بل للناس كافة، فخرج للروم بشخصه الكريم في تبوك وقبلها أرسل صحابته في مؤتة،

ودعى نصارى نجران، وآمن به النجاشي في الحبشة،

وقاتل اليهود من أول عامٍ هاجر فيه (قينقاع) ثم (النضير) ثم (قريظة)،

وراسل الفرسْ؛ ولم يعرف الملك في قريش كلها ولا فيمن حولها من القبائل،

وإنما فقط في أطراف الجزيرة (اليمن، والعراق، والشام) وكان ملكًا مستمرًا لم ينقطع وتابعًا للفرس والروم. وهذا يقول: كان يطلب ما فقده آباؤه من رياسة وشرف. يكذب.

الكذبة الثامنة:

يقول كان يعرض نفسه على التجار، وآمنوا به لأن ما سمعوه منه كان هو هو ما سمعوه من اليهود. وغير صحيح.

فقد كان يعرض نفسه الشريفة على القبائل وفي موسم الحج.

وستة فقط من الأنصار هم الذين آمنوا بدعوته ولم يكونوا تجارًا بل من الحجيج، وبقية الأنصار آمنوا في ديارهم بدعوة مصعب بن عمير ومن آمن من قومهم.

وما سمعه الأنصار من اليهود كانت بشارة بظهور نبي لا أن النبي حدثهم بمثل ما تحدثت به يهود.

يحاول هذا الخبيث ضمنًا أن يؤكد فكرة تعلم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، مع أن القصة تثبت العكس تمامًا.

الكذبة التاسعة:

ويصور حادث الهجرة وكأنه كان هروبًا كما اللصوص..

يقول: تخفى الصحابة في هيئة تجار. يكذب ويدلس. فاستحضار التجارة يشي بأن البعثة كانت حول المال (تجارة).

الكذبة العاشرة:

ادعي أن النبي هادن يهود ثم انقلب عليهم.

كأنه غدر، ولم يحدث منه غدرٌ بل مد يده لهم بسلام وأمان وعاقبهم حين كشفوا عورة المسلمة، وحين هموا أن يقتلوه غيلة بعد عهدٍ وأمان، وحين تواطئوا مع الأحزاب وحاولوا قتل النساء والأطفال.

كانت مروءة وحسن جوار، ثم حزمًا في التعامل مع الخائنين المتواطئين مع العدو وقت البأس.

انتهت كلمات المقال ولم تنته كذبات أكبر مؤرخي الغرب وسأعود مرة أخرى للبيان إن شاء الله. 

من د. حسام الدين عفانة

فقيه ومفتي وكاتب فلسطيني، وأستاذ الفقه والأصول في جامعة القدس