«سحر كرة القدم: العالم والحياة في 90 دقيقة.. مقالة في 820 كلمة.»

اجتمع ممثّلو بعض المدارس العامّة والجامعات في انجلترا في يومٍ ما، وسنةٍ ما من الثّلث الأوّل للقرن التّاسع عشر،

وأخذتهم الأحاديث إلى الحاجة لتنافس جماعيّ رياضيّ بين المدارس والجامعات، فكان البزوغ المنظّم، أو شبه المنظّم لـ«لعبة ركل الكرة»،

المعروفة شعبيّاً من قبل في انجلترا وغيرها من بلاد الدّنيا، وبسبب اختلاف قوانين اللّعبة بين تلك المدارس والجامعات،

ثمّ الخلاف الكبير الّذي نشأ حول حدود استعمال اليد في هذه اللّعبة، وظهور اتّجاه لا يريد استعمال اليد،

ويريد للعبة ركل الكرة أن تصير «كرة القدم»، واتّجاه آخر يؤيّد استعمال اليد،

أُسّس الاتّحاد الإنجليزيّ لكرة القدم عام 1863، الّذي عقد اجتماعات شهدت نقاشات حادّة بين أنصار «القدم»، وأنصار «اليد»،

انتهى إلى انتصار أنصار ركل الكرة بالقدم، وتحديد استعمال اليد وتقييده،

فنُشرت مع نهاية العامّ أوّل قوانين لكرة القدم تحظر استعمال اليد، إلّا أنّ ذلك لم ينهِ آمال أنصار استعمال اليد،

بل دفعهم لتطوير لعبة تختلف عن كرة القدم، وهي «الرّجبي» الّتي كان لأستراليا وفرنسا، إضافة لأنصارها في انجلترا دور كبير في تطويرها، وانفصالها عن «كرة القدم» الّتي نعرفها.

لعبة الرجبي

وفي العام 1869 لعبت جامعة روتجرز في «نيو برونزويك» في الولايات المتّحدة لعبة «الرّجبي»،

لكن سرعان ما وجد «الأمريكيّون» أنّ التّوسّع في استعمال اليد في حمل الكرة والجري بها وتمريرها،

وإتاحة الاشتباك الجسديّ بين أكبر قدر من الخصوم، يزيد من «متعة اللّعبة»، و«المرح»، و«التّنافس»! فظهرت لعبة “كرة القدم الأمريكيّة”.

بعد ظهور فرق كرة القدم التّابعة للمدارس العامّة والجامعات في انجلترا، قدّمت هذه اللّعبة فرصة للمدن الإنجليزيّة، بل «الأحياء في المدن»،

لتشكيل روابط جديدة للعمّال الّذين توسّعت طبقتهم؛ طبقة العمّال مع الثّورة الصّناعيّة في مدن انجلترا،

خاصّة مع ازدياد المهاجرين من القرى إلى المدن للعمل في المصانع، فبدأت الأندية الإنجليزيّة بالظّهور،

وأُسّست بطولة «كأس الاتّحاد الإنجليزيّ» عام 1871، ثمّ أوّل دوريّ لكرة القدم في انجلترا عام 1888.

 شكّلت تلك الأندية روابط جديدة للعمّال، وسكّان الأحياء، ووفّرت فرصة لتسليتهم، وتنمية «مواهبهم»،

ولكن سرعان ما ظهرت آثارها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة،

فظهر مفهوم «الحرفة والاحتراف» حين رأت أندية شمال انجلترا المرتبطة بمدن الشّمال المزدهرة صناعيّاً، أنّها قادرة «ماليّاً» على استقدام/أو «شراء» لاعبين من مدن أخرى،

بل من مناطق أخرى، ولاسيّما «اسكتلندا»، وأنّها لا تريد الاكتفاء بلاعبي مصانعها وأحيائها، ممّا يزيد من قدرتها التّنافسيّة، وفرص فوزها بالبطولات.

تأسيس أندية أمريكا اللاتينية

 مع نهايات القرن التّاسع عشر ساهم مهاجرون بريطانيّون؛ إنجليز واسكتلنديّون في تأسيس أندية كرة قدم في «الأرجنتين»، و«الأورغواي» و«البرازيل»، كان جلّ الّلاعبين من عمّال سكّة الحديد المهاجرين، أو طلبة المدارس البريطانيّة هناك.

المدرسة والجامعة والمصنع كانت حواضن «كرة القدم»، ولأنّ منطق «الصّناعة» وأحكامها يفرض نفسه متّى وجد، بدأت سيرة الاشتباك بين «الصّنعة والصّناعة والنّظام» و«الأرباح» من جهة، و«الموهبة الفرديّة»، و«المغامرات»، والإبداع بقهر النّظام وتجاوز قيوده و«حدوده».

رحلة اشتباك طويلة، ربّما يرى كثيرون أنّ الانتصار كان حليف «الصّناعة» و«التّجارة» و«المال»، إلّا أنّه انتصار لم يصل إلى قتل «الموهبة»، واغتيال «الإبداع»، وخنق «غير المتوقّع والمفاجئ» بعدُ.

 وإذا كانت الأندية الأولى في انجلترا واسكتلندا، ثمّ في أوروبا، وأمريكا الجنوبيّة روابط «طبقيّة» جديدة لطلبة وعمّال مهاجرين وغير مهاجرين، فإنّها الآن روابط تتقاطع أحياناً، وتتجاوز أحياناً أخرى روابط مناطقيّة ودينيّة وطبقيّة، لكنّها في النّهاية روابط مركّبة وعجيبة أحياناً!

فعلى الرّغم من هيمنة عامل المال على الأندية الأوروبيّة وغير الأوروبيّة، وأنّ أنصار تلك الأندية لم يعودوا منذ عقود أبناء أحياء الأندية، أو مدنها وحسب، بل امتدّ الأنصار حول العالم كلّه، فإنّ اجتياح أندية أوروبا العالم ترافق مع سمات ومظاهر، منها:

(1)

مركزيّة لأندية بعينها، ودوريّات بعينها، تساهم في مركزيّتها «الأموال»، و«المتعة»، وكثافة الحضور التّلفزيونيّ؛

فنجد أنّ جلّ مواليد السّتينيّات وما قبل في الأردن مثلاً مرتبطون بأندية «إنجليزيّة»، كانوا يشاهدون مباراياتهم، أو ملخّصات عنها في التّلفزيون الأردنيّ،

ثمّ جاءت الأندية الألمانيّة مع مطلع الثّمانينيّات، ثمّ «الإيطاليّة» مع نهاية الثّمانينيّات ومطلع التّسعيّنيّات،

حتّى هيمن على أبناء نهاية التّسعينيّات ومطلع الألفيّة الثّالثة هوس «المدريديّة والبرشلونيّة»

بسبب «الجزيرة الرّياضيّة» الّتي كانت «مجانيّة»، قبل أن تصير «بي إن»، فتدخل كلّ عوالم كرة القدم،

ويمسي «الدّوري الإنجليزيّ»، و«أبطال أوروبا» مرجع هويّات وانتماءات.

(2)

توفير هامش «خدّاع» لبعض «المثقّفين» من متابعي كرة القدم، لتسويغ انتماءاتهم وانحيازاتهم تسويغاً ثقافيّاً وطبقيّاً وسياسيّاً، فيبدوا الانحياز لـ«برشلونة» انحيازاً لفقراء العالم!

والانحياز لـ«ليفربول»، و«مانشستر يونايتد» انحيازاً للعمّال والتّاريخ!

والانحياز لـ«مدريد» انحيازاً «برجوازيّاً» ملكيّ الطّابع! ويصبح «تشلسي» و«مانشستر سيتي» و«باريس سان جريمان»، وبعد قليل «نيوكاسل» ممثّلين لمحدثي الثّروة من تجّار النّفط والغاز في «روسيا» و«الخليج»!

هكذا تصبح «كرة القدم» تمثيلاً مركّباً وغنيّاً للعالم كلّه بما فيه؛

فحبّها وكرهها، متابعتها والنّفور منها، تقديسها وتدنيسها لا تقف عند حدود «اللّعبة»،

بل توهم الجميع بأنّ مواقفهم منها فرع عن مواقفهم من الحياة والاقتصاد والسّياسة والثّقافة بل والدّين كذلك!

سحر كرة القدم -الّذي لا يزال-

هو أنّها توفّر للجميع على تناقض مواقفهم واتّجاهاتهم فرصاً وافرة وغنيّة للمتعة والضّيق معاً، للفرح والحزن معاً،

للغضب والرّضا معاً، لتبدو «راقياً» و«همجيّاً» معاً، لتبدو موضوعيّاً ومنحازاً متعصّباً معاً،

لتبارك وتشتم معاً، لتحضن وتضرب معاً، لتكتب وتتكلّم في عشقها وفي كرهها والتّحذير منها معاً!

ملاحظة للتّاريخ والحاضر:

كان لنادي «أستون فيلا» ومديره «وليام ماكجريجور» دور كبير في تأسيس الدّوريّ الإنجليزيّ عام 1888،

وكان بإمكان «أستون فيلا» أن يقرّر من سيفوز بدوري عام 2022 أمس، لكنّ «ماشستر سيتي» صنع مصيره بأقدامه، وفاز بالدّوري،

وترك «ليفربول» وأنصاره يندبون حظّهم، أو يلعنون «الحكّام والأموال»، وكأنّ «ليفربول» يعيش على تبرّعات «عمّال» موانئ المدينة والعالم!

من د. جاسم الشمري

كاتب صحفي وباحث سياسي عراقي