تحتل روسيا المركز الثاني في العالم من حيث القوة العسكرية، وتتمتع باقتصاد قوي وتستولي على مخازن الشرق وخيراتها، كما وتعيش كثير من الدول تحت انتدابها وسيطرتها وهي طوع أمرها ورهن إشارتها في كل خطواتها.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي شغلت مساحته جزءا كبيرا من الشرق واحتل كثيرا من الدول بفضل السيف والدم، لم تبق لروسيا تلك الهيمنة والقوة، واستقلت إثر ذلك كثير من الدول التي كانت تعيش تحت انتدابها ردحا من الزمن.

بقيت روسيا دولة منهكة ضعيفة، قليلة الأثر والهيمنة مدة من الزمن وكادت أن تمحى عن الأذهان كقوة عظمى، ولكنها استطاعت أخيرا تحت قيادة ولاديمير بوتين أن تتدارك بعض خسائرها وتستعيد هيمنتها وقوتها العسكرية وتبسط نفوذها في بعض دول الشرق وتحسّن اقتصادها المنهار بالأخص بعد ضعف الدور الأمريكي وهزيمته في أكثر من معركة.

يعرف الدب الروسي بضراوته ووحشيته طيلة تاريخه الطويل المليء بالمجازر والفظائع. وعليه فإن استعادة قوته يعني أن البشر سيشقى وسيشهد دمارا ودماء وخرابا.

كان أول هجوم روسيا تحت قيادة بوتين على سورية بعد أن عجزت أمريكا وعملاءها عن تركيع الشعب السوري الصامد فأعطت أمريكا الضوء الأخضر لروسيا، فتم الهجوم على المدن الخاضعة للثوار السوريين، واتخذت موسكو سياسية الأرض المحروقة بعد أن واجهت مقاومة شرسة من الثوار، وأهلكت الحرث والنسل وجعلت هذه المدن كومة من تراب ولم ترحم حتى الأشجار فأحرقتها عن آخرها.

كل هذا يقع والشعب السوري إما يهجر أو يموت. والعالم يتفرج والدول الإسلامية لا تنبس ببنت شفة، وبعضها تدعم الغزو الروسي بكل ما تملك من العدد والعتاد، وبعض الدول تكتفي بإدانة باردة لا تسمن ولا تغني من جوع.

 أبيد الشعب السوري الأبي في ظل الصمت الدولي فلم تبك لهم البواكي ولم تتحرك لهم السواكن.

جربت روسيا كل أنواع أسلحتها المدمرة والفتاكة على الشعب السوري وعلى الأراضي السورية وتمت لها الهيمنة في أكثر أجزاء سورية، وبدأت بتوسع نفوذها وبناء قواعد عسكرية قوية.

ولكن ما حدث في أوكرانيا كان عكس هذا تماما،

حيث كانت ردود الفعل الدولية والإقليمية تختلف تماما عما جرى في سوريا

حيث رحبت كل دول العالم بمهجري أوكرانيا واتفقت كلمتهم على إدانة روسيا وبدأت الأسلحة النوعية والمتقدمة تنهال على أوكرانيا،

فلم يتحقق حلم بوتين مثل ما تحقق في سورية،

إذ كان قياسه مع الفارق، فهذه دولة مسلمة وشعب مسلم،

وتلك دولة مسيحية وشعبها مسيحيون، الشعب السوري غير مرحب بهم ولا يستحقون أي نوع من الرحمة والشفقة وأما الشعب الأوكراني فشعب مقدس يجب الدفاع عنهم بالأرواح والأموال، الشعب السوري شعب آسيوي والشعب الأوكراني شعب أوربي.

لذلك باءت مخططات بوتين الذي كان يتوقع أن يحتل أوكرانيا خلال بضعة أيام بالفشل،

وواجه الجيش الروسي مقاومة لم يكن يتوقعها ولم يعد العدة لها، وها نحن الآن على مشارف الشهر الثالث والدب الروسي ما زال يحارب على الحدود.

قد خسرت روسيا كبار جنرالاتها، وخسرت آلافا من جنودها، وخسرت معداتها وطائراتها الحربية وسفنها العملاقة وما زالت تواجه مقاومة شرسة من قبل الشعب الأوكراني بعد أن تعاطف العالم معه وبعد أن أرسلت أوربا وأمريكا معدات عسكرية مماثلة له لسد الزحف الروسي.

وقوع روسيا في المستنقع الأوكراني وإن كان له تبعاته الخطيرة على صعيد العالم إذ سيتأثر الاقتصاد العالمي وربما ستقوم حرب عالمية ثالثة وربما حرب نووية تهلك الحرث والنسل، ولكن ليس من السهل إجبار بوتين على إيقاف الحرب.

فقد أساء بوتين التقدير، وكان الإجماع الأوربي والأمريكي وكثير من دول الشرق على إلحاق الهزيمة ببوتين مخيبة بالنسبة إليه، فبدأ يقلل من طموحاته ويتراجع عن كثير من مطالبه التي شن الحرب لأجلها.

ماذا سيكون مستقبل هذه الحرب ومن سيكون رابحا، وما هو السيناريو المحتمل؟

لا يمكن التنبؤ بمستقبل هذه الحرب ولكن من الواضح أن هزيمة روسيا ربما لا تكون بهذه السهولة وربما  لا تكون نصراً للغرب،

وقد يؤدي الغرب كلفة باهظة، لأن الروس معروفون بضراوتهم ووحشيتهم،

قد تلجأ روسيا إذا شعرت بالهزيمة الحتمية إلى أسلحة أكثر دمارا وفتاكا وربما تلجأ إلى أسلحة نووية وحينئذ يشقى العالم.

وعليه فإن كثيرا من المحللين يرون أنه لا أحد يخرج رابحا من هذه الحرب، لا الغرب ولا روسيا،

لأن تبعاتها ستكون وخيمة على حد سواء على روسيا والغرب.

ولا يخفى أن فقدان جنود الروس معنوياتهم وتساقطهم في المعارك وقوة الدفاع الأوكراني، استعصت على موسكو السيطرة على المدن،

وهذا ما يجعل الحرب تطول أكثر فأكثر، إذن غطرسة بوتين لن يركعه بهذه السهولة مهما كلفه ذلك من الثمن.

الحل الوحيد لإيقاف هذه الحرب المستنزفة هو الجلوس إلى طاولة المفاوضة

والتنازل عن الطموحات غير المبررة حيث يسعى بوتين استعادة أجزاء من الإمبراطوريةالروسية السابقة .

وإلا ستتوسع الحرب وربما تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.

وتسعى كثير من الدول وعلى رأسها تركيا إلى إيقاف الحرب دبلوماسيا،

ولعبت تركيا دورا مهما كوسيط لإقناع روسيا وأوكرانيا على إيقاف الحرب،

وهذا ما رحبت به روسيا وأوكرانيا ولكن لحد الآن لم تصلا إلى حل دبلوماسي ولا يزال طريق الحوار والمفاوضة مفتوحا.

ولكن ليعلم أن الغرب إذا كان على استعداد حقيقي لإيقاف الحرب عن طريق الحوار سيجد مخرجا سريعا من هذه المأزقة

وربما يريد الغرب أن يوقع روسيا في الوحل الأوكراني حتى تنقلب دولة ضعيفة.

ويرجو الغرب أن يؤثر العقوبات المفروضة على روسيا سلبا ويقصم ظهرها.

وتشير الوقائع إلى أن روسيا باتت تغوص بمستقنع أوكرانيا وينهار اقتصادها انهيارا غير مسبوق.

بقي السؤال هل الحرب في صالح الدول الإسلامية؟

معلوم أن الحرب مدانة بكل أنواعها، ولكنها فرصة للدول الإسلامية

التي تعيش تحت السيطرة الشرقية والغربية أن تخرج من هذه التبعية

وتكوّن كتلة موحدة إزاء التحديات التي تواجهها من دول الشرق والغرب، وتستقل في قراراتها.

ومعلوم أن الحرب إذا طالت سوف تؤثر سلبا على الاقتصاد الروسي والغربي، وربما يتغير العالم بعد الحرب إلى غير ما كان عليه قبل الحرب،

وربما يتقلص النفوذ الروسي والغربي في كثير من الدول.

وهذا ما يعطي الدول الإسلامية فرصة لمراجعة أمورها واستعادة قوتها وخروجها من التبعية التي قصمت ظهرها.

ويمكن للدول الإسلامية أن تستقل إذا تناست الخلافات ووحدت كلمتها ووقفت يدا واحدة أمام التحديات الغربية والشرقية،

وجعلت شعارها: لا شرقية ولا غربية، بل استقلالية في كل شيء. وحينئذ تنعم بالأمن وتشهد نموا في الاقتصاد والعلم والتقنية.

من أحمد تركي

مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف