شيرين أبو عاقلة، الصحفية الفلسطينية، والإنسانة الشريفة، رحلت في زمن الرصاص والقوة، وذهبت من الدنيا في لحظة الصمت العربي، والموت السريري للجامعة العربية، ولكنها أيقظت الضمير الإنساني من السبات، وصار موتها لعنة على الظالمين، وأهل الطغيان.

رحلت شيرين من العالم

بعد أن ناضلت في فلسطين لرفع صوتها فقط، لتقول للعالم اليوم، أن الزمن ليس لصالح الطغيان دوما، بل هناك صرخة للحق، ولكن هذه المرة بلغة أنثوية، وهناك صيحة للوطن،

ولكن هذه المرة من إنسان لا يملك سوى الكلمة، فالكلمة لا تموت، ولا ترحل، ولا تفنى، بل هي وراء كل مشروع تحرري، ووراء كل مشروع إنساني،

فلا حرية لمن صمت وسكن، ولا تحرير لمن خاف واستسلم، فالحياة تبتسم للأحرار، وتضحك على العبيد، والمسافة بين الحر والعبد طويلة،

والرحلة من عالم العبودية إلى عالم الحرية عميقة وطويلة، لأن الرحلة تبدأ من العمق، من الداخل، ولا تبدأ من السطح،

ولا من المفاوضات فقط، بل لا بد من وجود إنسان يرفض العبودية وشروطها، حينها فقط يبدأ الإنسان رحلة الإقلاع من عالم العبودية.

هناك من يتحدث عن مصيرها بعد الموت، ويترك الحقائق الموجودة أمامه، فيصمت عن الظلم، ويرفض مواجهة الباطل ولو بكلمة، ولكنه يتحدث عن أنها من أهل الجنة  أو النار،

ويلوى أعناق النصوص القرآنية والنبوية لتتفق مع أفكاره، فهذا النوع من البشر يقوم بتمييع الدين،

وهناك من يلعن سيدة فاضلة حاربت لأجل القضية، وعاشت كذلك لأجل الكلمة، وصدعت بالحق في زمن الصمت والهرولة نحو بيع القضية باسم التطبيع، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

ذهبت المرأة الحديدية (أبو عاقلة)  في فلسطين،

ورحلت عن عالم الصراخ، وذهبت إلى عالم السكون، وصمتت، ولكنها في هذه المرة  لم تختر الصمت، بل كانت تحارب حتى الرمق الأخير،

تتكلم عن عناد، وتصرخ عن قناعة، وتعلن رأيها الصحفي بمهنية، وتقف أمام الرصاص بقوة،

وتلعب دورا حضاريا لأجل القضية، فكانت خير النساء في هذا الدور الحيوي،

وكانت خير المناضلات في عالم الكلام، فكانت فلسطينية حتى النخاع، وعربية بلا نفاق، وإنسانة بلا حدود،

وعاشت لأجل ذلك زمنا طويلا حتى صارت أيقونة القضية في زمن الصمت، وفى زمن الهرولة العربية نحو العدم السياسي.

هذه السيدة هي التي علمت الإنسانية أن العيش  بلا قضية موت، وأن الإنسان بلا قضية عدم، وأن فلسطين ليست وطنا بلا شعب،

وأن  الشعب الفلسطيني ليس أرقاما فقط، وقضيته ليست خياما تبنى له في بقاع الأرض، فهو شعب له أرض، وتاريخ، وجغرافيا،

ولكن تصنع كل ذلك بشكل حضاري، فهي تصرخ من أخطر قناة إعلامية عربية في الزمن الحالي (الجزيرة)،

وتعمل بلا كلل لأجل أن يرى الناس، ويسمع العالم،

ماذا يريد الإنسان الفلسطيني البسيط من العالم؟ ومن العرب؟ ومن المسلمين؟

علمت البشرية أن فلسطين قضية للمسلم والمسيحي معا،

في هذا المكان المقدس ولد نبي الله عيسى عليه السلام، ومن هناك انطلقت دعوته للعالم،

ومن هذه البقاع كانت رحلة  رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء، ومنها انطلقت دعوات الأنبياء عليهم السلام،

ولهذا نعتبر فلسطين أرضا فيها حضارة، ونبوة، وتاريخ، وإنسان، وليست فقط أحجارا، ووديانا، إنها أرض الرسالات الإلهية،

ومن هنا فالصحفية (شيرين أبو عاقلة) ارتبطت بالقضية كلمة  وصورة، وارتفع صوتها إلى عنان السماء،

وارتقت نحو المجد، فتبقي أيقونة فلسطين، ورمز الصحافة الحرة، والكلمة الأبية.

إن الإنسان ليس فقط جسدا يحتاج إلى الغذاء،

وليس فقط كائنا بيولوجيا يتطلب إلى رعاية مادية، فالإنسان في حقيقته مشروع رباني، يرفض الطغيان، ويحب العدل، ويعمل لأجل الكرامة،

ولكن كل ذلك يتطلب إلى إعداد بيئة، فكانت قناة الجزيرة بلا مجاملة بيئة الإنسان، والرأي المغيب، والصوت الخافت،

وأصبحت منبرا لمن لا منبر له، فكانت شيرين أبو عاقلة نجمة من نجومها،

وستكون شمسا لا تغرب، وكوكبا مضيئًا غير قابل للأفول.

لقد عشت معها في هذه اللحظات،

وعشت مع كل الأصوات المنحازة لها في الشرق والغرب، وعشت مع الذين رفعوا قضيتها في كل مكان، فقضيتها إنسانية، وفلسطينية،

ولهذا كنت منحازا لها، وسأبقى منحازا لها، لأنها تجاوزت الزمان والمكان،

ولأنها عاشت لأجل الكلمة الحرة، ولأجل القضية، وسنبقى معها ما دمنا أحياء.

من علي قاسم

داعية مصري