احتل صلاح الدين الأيوبي مكانته في تاريخ الإسلام والمسلمين، بما قدمه طوال عمره من عطاء غير محدود، وجهاد متواصل طيلة عشرات السنين؛ أسفر عن إتمام النصر على الحملات الصليبية التي استمرت مائتي عام.

ـ والحقيقة أننا يجب أن نذكر ثلاثة أسماء متلازمة مع بعضها؛ إذا أردنا أن نتحدث عن هزيمة الحروب الصليبية وتطهير بلادنا من هذا الاحتلال ومن هذا البلاء الخطير:

الأول عماد الدين زنكي (الأب)؛ الذي بدأ التحرير فحرر أنطاكية؛ وله فضل البداية والسبق في اختراق حالة العجز والتيه، وتجييش المسلمين وإيقاظ همتهم.

الثاني نور الدين محمود زنكي (الابن)؛ وهو أهم الثلاثة من حيث الدور الاستراتيجي الذي قام به في تعبئة الأمة وتوحيدها ودفع مسيرة الجهاد، رغم إنه لم يحرر أي من الولايات التي أقامها الصليبيون.

الثالث هو صلاح الدين الأيوبي؛ الذي نظّف مصر من قاذورات الوجود الشيعي لأكثر من مائتي عام، ثم أكمل مشروع الجهاد والتحرير.. وجاءت شهرته من تحرير درة التاج وهي مدينة القدس؛ ذات الأهمية الدينية والاستراتيجية والمعنوية.

ـ لم يكن صلاح الدين قائدًا فذًا واستراتيجيًا عبقريًا فقط؛

بل كان مسلمًا مخلصًا صالحًا، يعرف دينه جيدًا، ويحب المسلمين ويتفانى في تحقيق مصالحهم العليا.

ـ لكن هل تصدق أن هذا البطل التاريخي والقائد العظيم (صلاح الدين الأيوبي) يخرج من صلبه حفيد خائن هو الملك الكامل.. الذي سلّم القدس طواعية للصليبيين؟

ـ حدث هذا في ١٩ فبراير سنة ١٢٢٩م، حيث سلّم الملك الكامل،  الجزء الأكبر من مملكة بيت المقدس،

التي حررها جده صلاح الدين الأيوبي عام ١١٨٧م، إلى الصليبيين،

وفق معاهدة يافا التي عُقدت بين الملك الكامل ملك مصر والإمبراطور الألماني فريدريك الثاني.

ـ وقد بدأ الخطأ بتفتيت صلاح الدين لدولة الخلافة وتوزيعها على أبنائه من بعده (وكان عليه ألا يفعل ذلك وألا يفتت الدولة)

فنشبت بينهم الخلافات على توسيع كل منهم لملكه على حساب أخيه؛ فما فعله صلاح الدين وعمه أسد الدين شيركوه في جهاد الصليبيين،

ثم تأسيس الدولة الأيوبية قام أحفادهما بتشويهه وتخريبه.

ـ ولم يكن الملك الكامل هو الحفيد الوحيد الخائن؛

فقد استمرت الخلافات بين الأمراء الأيوبيين، فقام الصالح إسماعيل بالشام (حفيد ثان لصلاح الدين الأيوبي)

بالتحالف مع الصليبيين ووعدهم بإعطائهم بيت المقدس،

وفي هذا الوقت بدأ جنكيز خان بحملاته ضد الشرق وغزوات المغول ضد الخوازرميين سنة ١٢١٩ ـ ١٢٥٨م،

الذين كانوا لاعبين رئيسيين في المنطقة الشرقية.

ـ ارتكب الملك الصالح إسماعيل حاكم دمشق خيانة كبيرة،

فقد تحالف مع الغزاة الصليبيين ليساعدوه ضد ابن أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر،

ولم يكتف بذلك؛ بل سلمهم مقابل هذا التحالف قلعة صفد وبلادها، وقلعة الشقيف وبلادها، وصيدا،

وزيادة على ذلك أباح للصليبيين أن يدخلوا دمشق، ويشتروا السلاح وآلات الحرب ليضربوا بها المسلمين.

ـ أخذ الملك الكامل يفكر بالتهديد المغولي القادم من الشرق، وكذلك خلافه مع أخيه المعظم عيسى حاكم دمشق والأشرف موسى حاكم إقليم الجزيرة الفراتية.

كل ذلك جعل الكامل يطلب من فريديك الثاني، الإمبراطور الألماني، القدوم وتسلميه ما حرره صلاح الدين شرط أن يسانده ويحارب معه ضد أخيه المعظم عيسى.

ـ كان الخوارزميون في الشرق قوة يمكن الاستعانة بها،

ونتيجة لتحالف الصليبيين مع الصالح إسماعيل،

دعا الصالح أيوب الخوازرميين وتحالف معهم، وعبر عشرة آلاف مقاتل إلى بلاد الشام،

وتوجهوا إلى بيت المقدس فحرروه عام ١٢٤٤م،

وقتلوا وطاردوا الصليبيين في الشوارع،

وقدر عدد من قتلوه قرابة ألفي مقاتل صليبي، وهرب ثلاثمائة مقاتل صليبي آخر إلى يافا،

وبهذا ضم الصالح أيوب بيت المقدس لملكه ولملك المسلمين من جديد،

وبقي بيت المقدس تحت سيطرة المسلمين ولم يدخله جيش صليبي حتى عام ١٩١٤م،

حينما دخله الصليبيون الجدد عن طريق الجيش البريطاني.

ـ من الدروس المهمة المستفادة،

أنه رغم خطأ صلاح الدين الكبير بتفتيت الدولة وتقسيمها بين أبنائه لإرضائهم،

إلا إن الأمة استطاعت تصحيح هذا الخطأ، لأنها كانت ما تزال بخير، وعوامل القوة فيها كثيرة،

وتستجيب لدعوات الجهاد، وتلتف حول القادة المخلصين،

وتفرز العلماء الربانيين الذين يصدعون بالحق ولا يشترون الدنيا بالآخرة..

وبالتالي يستجيب لهم الناس ويتأثرون بهم.

ـ لكن تصحيح الخطأ ثم تجاوز الخيانة، تطلب ١٥ عامًا من عمر الأمة،

كما تطلب جهدًا كبيرًا ودمًا مراقًا وثروات تم إنفاقها على المجهود العسكري.

ـ وقد كان الدرس الأعظم،

هو أن القانون الذي يجب أن يكون ثابتًا لا يقبل التغيير، هو «وحدة الأمة وعدم تفتيتها»..

تنفيذًا لتوجيهات القرآن والسنة..

فالتاريخ يؤكد أن وحدة الأمة هي الطريق لكل خير وهي المفتاح لكل نصر،

وأن الأمة لا تذوق الذل والهوان والهزائم والتبعية لعدوها، إلا بالتشرذم والتفرق وسيطرة كل ملك

أو أمير أو حاكم على شريحة أو قطعة أو جزء من بلاد المسلمين،

وتنافسهم على هذه اللعاعة، وتعارض مصالحهم الشخصية مع مصالح الأمة الكبرى في الوحدة والتراص واتحاد الكلمة والقرار.

من د. منير جمعة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين